مختصر تاريخي لدير القديس سابا

null
Share

image_pdfimage_print

                                     

المرحلة ألاولى: منذ تأسيس الدير وحتى بداية الحكم العربي (٤٨٣-٦٣٨م)

دير القديس سابا المتقدس في صحراء يهوذا يُعتبر من أهم المقدسات في ألارض المقدسة وفي التاريخ الكنسي بسبب دوره في وضع أُسس العبادة المستقيمة الرأي وتنظيم الحياة الرهبانية والطقوس الكنيسة, وأيضاً لوجود عدد من القديسين واللاهوتيين والشهداء  الذين تنسكوا في الدير وإعتادوا على الحياة الرهبانية القاسية. أيضاً لعب هذا الدير دوراً حاسماً في النضال من أجل المحافظة على المقدسات والحقوق ألاورثوذكسية للبطريركية ألاورشليمية التي تعرضت للانتهاكات في مراحل تاريخية مختلفة.

يعود تأسيس الدير الى سنة ٤٨٣ على يد  القديس الروحاني سابا الذي كان كمصباح مضيء لجميع المتعطشين لحياة الوحدة مع الله, والحياة الرهبانية في الدير لم تنقطع طوال ال١٥٠٠ سنة من تأسيسه حتى يومنا هذا. النواة ألاولى للدير (اللافرا) تكونت على يد الرهبان ألاوليين الذين كانوا مع القديس سابا سنة ٤٨٣.  بعدها نُقلت اللافرا من الجهة الشرقية حيث موجودة صومعة القديس سابا الى الجهة  الغربية حيث بُنيت هناك “الكنيسة التي بناها الله” كما أطلق عليها الرهبان سنة  ٤٨٦-٤٩١.

تزايُد عدد ألاخوية في الدير أجبر الرهبان على بناء كنيسة أكبر وهكذا بُنيت كنيسة العذراء سنة ٥٠١ م, وجعل الرهبان يبادرون  بتنظيم الحياة الرهبانية في الدير والخدمات الضرورية حتى تتناسب مع عدد الرهبان المتزايد  وتلبية إحتياجاتهم.

سمعة القديس سابا الروحانية وقداسته جعلت منه قائداً ومؤسساً للحياة الرهبانية  في أورشليم  وواضع قوانينها (٤٩٣ م) ليس فقط في ألاديرة الرئيسية التي بناها حتى رقاده سنة ٥٣٢ وإنما في جميع أديرة فلسطين, وكانت اللافرا الرئيسية (أي الدير الرئيسي) مصدر ألهامٍ للطقوس والحياة الكنسية.

دير القديس سابا لعب دوراً حاسماً في مواجهة هرطقة الطبيعة الواحدة (المونوفيسيتية)  ٥١٢-٥١٦  ووقف في وجه ألامبراطور أناستاسيوس وباقي البطريركيات في الشرق التي كانت في يد المونوفيسيتية. هذا النضال اللاهوتي لرهبان الصحراء حمى البطريركية ألاورشليمية من هذه البدعة. كذلك وقف رؤساء الدير الذين خلفوا القديس سابا مثل القديس يوحنا أسقف كولونيا السابق المُلقب بالهادئ وهو تلميذ القديس غريغوريوس,  في وجه بعض تعاليم العلّامة  أوريجانوس خاصة فيما يتعلق بتفسيره لمكانة الروح القدس وعمله, وتعرض الرهبان للاعتداءات حتى عند تعيين واحد من أتباع أوريجانوس (جيورجيوس سنة ٥٤٧ م) رئيساً للدير بالقوة, لكن إرادة الله حمت الدير عن طريق الراهب كونوس أحد أتباع القديس سابا الذي قاوم هذه التعاليم في المجمع المسكوني الخامس سنة  ٥٥٣م .

ظهور الفرس في ألاراضي المقدسة سنة  ٦١٤م مهّد الطريق  لمجيء العرب المسلمين سنة ٦٣٨م, وفي تاريخ ١٦ ايار سنة ٦١٤م  تعرض رهبان الدير لمذبحة على يد الفرس الذين قتلوا  ٤٤ راهباً من رهبان الدير.

المرحلة الثانية: الحكم العربي, الفترة الصليبية, حكم المماليك  (٦٣٨-١٥١٧م)

بعد ألاحتلال العربي وإعادة تنظيم اللافرا (كلمة لافرا تعني دير) الرئيسية على يد البطريرك القديس موذيستوس بدأت مرحلة الصعود وألازدهار في الدير خصوصاً في القرن الثامن ميلادي وبدايات القرت التاسع. في هذه الفترة ظهرت في الدير نخبة من القديسين الذين زيّنوا كنيسة أورشليم وكل الكنائس بمعرفتهم ونضالهم,  أهمهم  القديس يوحنا الدمشقي أحد أعمدة وفلاسفة الكنيسة الذي كان لاهوتياً عظيماً وناظم ألاناشيد الكنسية, القديس قزماس مؤلف ألاناشيد, القديس استيفانوس المرنم, القديس استيفانوس العجائبي, ونخبة كبيرة من الرهبان وألآباء الذين أصبحوا فيما بعد اساقفة وبطاركة, وقدم الدير عدداً كبيراً من الشهداء الذين ناضلوا وحموا الدير بدمائهم من ألاضطهادات. مع كل أعمال العنف التي تعرض لها الدير والكنيسة بشكل عام من قِبل البرابرة  (٧٩٦,٨٠٩,٨١٣م)  وبالرغم من الفوضى التي سادت في تلك الفترة وصل عطاء الدير للكنيسة الى قمته.

نضال القديس يوحنا الدمشقي ضد رافضي ألايقونات  (المرحلة ألاولى  ٧٢٦-٧٨٧م), والقديسين ميخائيل, ثيوذوروس وثيوفانس (المرحلة الثانية ٨١٤-٨٤٣م), يوضح مكانة وأهمية الدير في اللاهوت المسيحي. 

بالإضافة الى دور الدير في الكتابات والمؤلفات  اللاهوتية, أعطى  الدير ثروة كبيرة من الترجمات  والنسخ  حيث كان الدير مركزاً لترجمة المؤلفات  الكنيسة من اليونانية للعربية.  ويُذكر أن مؤلفات القديس إسحق السرياني المعروفة  تُرجمت لأول مرة من اللغة السريانية الى اليونانية  في دير القديس سابا على يد الراهب ابراميوس والراهب باتريكيوس في القرن الثامن.

من القرن التاسع ميلادي وحتى القرن الثالث عشر أخذ النظام الليتورجي الكنسي  (التيبيكون)  ومؤلفات ألاناشيد الطقسية لرهبان دير القديس سابا بالإنتشار بشكل واسع في باقي ألاديرة حتى وصل في القرن التاسع الى أديرة جورجيا البعيدة على يد القديس غريغوريوس خاندستا سنة (٨٢٦م) , وتأثر بهذا النظام عدد كبير من القديسين الذين قاموا بتأسيس ألأديرة فيما بعد.

بالمقابل أخذت المؤلفات الكنيسة خاصة ألشعر الكنسي الذي طوّره بشكل كبير القديس يوحنا الدمشقي  والمدرسة الشعرية السابية (نسبة لدير القديس سابا) بالإنتشار وأدى هذا النوع من الشعر الكنسي لوضع نظام جديد لطقوس العبادة الكنسية خاصة بعد فترة صراع ألايقونات.  التأليف الشعري للأناشيد الكنسية  للقديس يوحنا الدمشقي ووضع ألالحان الثمانية للترتيل البيزنطي الكنسي أصبح سائداً في العبادة, وكتابة ألالحان الثمانية  أصبحت الأساس ألاول لكتاب الصلوات الكنسية.

سنة ٨٠٨م وُجد دير القديس سابا مرة أخرى في حالة دفاع عن ألايمان المستقيم. تحت قيادة وإرشاد الرئيس الروحي للدير يوحنا تصدى الرهبان وشعب الكنيسة لهرطقة  “ألانبثاق” التي ظهرت من قِبل الرهبان البينيدكت في أورشليم, فقد أضافت الكنيسة الغربية على دستور ألايمان كلمة ألابن في عبارة “الروح القدس…….المنبثق من الآب (والإبن)..”, مما دفع  لردود فعل كبيرة خاصةً في بيت لحم وأورشليم  وإضطر الرهبان البينيدكت بالاستنجاد بالبابا ليون الثالث وبإمبراطور الفرنجه شارلمان الذي دعا لمجمع في مدينة آخن والذي فيه للاسف ثبّت هذه البدعة ووثقها في دستور ألايمان, بينما البابا ليون عارض هذا القرار بقوة, وهكذا بدأت فترة من الصراعات اللاهوتية بين ألاورثوذكس واللاتين في أورشليم.

في فترة الصليبيين كان رئيس الدير من اللاتين وكانت له مكانة عالية خصوصاً في غياب البطريرك ألاورشليمي, ولافرا الدير أصبحت غنية من قِبل الملكة  ميليسانثي (١١٣١-١١٦٢م), بينما كنيسة العذراء والرسومات التي بها رُممت في عهد ألامبراطور الروماني مانوئيل (١١٤٣-١١٨٠م) سنة  ١١٦٩م. 

انتصار المماليك بقيادة صلاح الدين على الصليبيين سنة  ١١٨٧م جلب معاناة جديدة لرهبان فلسطين ولكن بالرغم من كل الاضطهاد والقتل بقيت الحياة الرهبانية  تُمارس  في دير القديس سابا الذي بقي الدير الوحيد من بين كل ألاديرة صامداً في الصحراء.  في هذه الفترة تقلصت مساحة الدير وبُنيت ألاسوار حول الدير وإتخذ الرهبان نظاماً رهبانياً خاصاً يتصف بالتنسك والتقشف الشديد, وبالرغم من مرور الدير بفترة صعبة جداً يحاول فيها البقاء والصمود كان يُعتبر مدرسة كبيرة لأخوية القبر المقدس ومدرسة للحياة الرهبانية والكنسية.

في منتصف القرن الرابع عشر للميلاد أجرى ألامبراطور البيزنطي يوحنا كاتاكوزينوس (١٣٤٧-١٣٥٤م) ترميمات كبيرة في الكنيسة الرئيسية للدير وفي مكان قبر القديس سابا المتقدس. وفي تلك الفترة كان الحدث الاهم والحاسم بالنسبة لمستقبل العبادة ألاورثوذكسية وهو انتشار بما يسمى ” التيبيكون الليتورجي السابي الجديد ” (مُؤلف من التيبيكون السابيّ القديم ومن تيبيكون دير ستوديوس البيزنطي العريق, كلمة تيبيكون تعني نظام الطقوس الكنسية). عُمل بهذا التيبيكون الجديد في القسطنطينية في القرنين الثالث عشر والرابع عشر, وإنتشر لباقي ألاديرة في صريبا على يد القديس سابا الصربي (١١٧٥-١٢٣٦), ورئيس أساقفة صربيا نيقوديموس (١٣١٧-١٣٢٤).  التيبيكون السابيّ الجديد انتقل الى الجبل المقدس وأصبح معمولاً به في ألاديرة هناك, ثم وبسبب تأثيرعلم اللاهوت ألايسيخازموس ( كلمة ايسيخوس باليونانية يعني الهادئ, وهذا كان نوعاً من الحياة الرهبانية وأسلوب الصلاة) انتشر التيبيكون الى باقي منطقة البلقان لبلغاريا وروسيا.

من القرن السادس عشر أصبح تيبيكون دير القديس سابا التيبيكون السائد للطقوس الليتورجية في الكنيسة ألاورثوذكسية.

المرحلة الثالثة: من الحكم التركي حتى اليوم (١٥١٧- )

تعرض رهبان دير القديس سابا زمن السلطان التركي سليم للاضطهاد والقتل, وهذا كان له تأثيراً كبيراً على الحياة الرهبانية في اللافرا. وبالرغم من الفرامانات العديدة التي صدرت ( بين سنة ١٥٣٣-١٧٥٣م) والتي تنص على إصلاح اللافرا, ألاعفاء الضريبي وحماية حقوق رهبان الدير إلّا أن الرهبان تعرضوا لأشد أنواع المعاناة.

وجود الرهبان الصرب في اللافرا كان له فائدةً, لأنه في تلك الفترة تقلص عدد الرهبان اليونانين في القرن السادس عشر, ولكن عندما عجز الرهبان الصرب على تسديد ديون الدير من جراء عمليات البناء التي أجروها, تدخّل البطريرك ثيوفانس الثالث  ( ١٦٠٨-١٦٤٤) وسدد ديون الدير وأنقذه من يد الُمقرضين ومن يد ألارمن واللاتين الذين كانوا في تلك الفترة يحاولون ألاستيلاء على الدير. من بين المساعدين والمساهمين للدير يُذكر البطريرك نيكتاريوس (١٦٦٠-١٦٦٩) والبطريرك  ذوسيذيوس الثاني (١٦٦٩-١٧٠٧), وألاخير قام بعمليات الترميم والتوسيع في كنائس الدير, الغرف وألاسوار ( بين سنة ١٦٦٧-١٦٨٦).  

البناء الحالي للدير بني بعد زلزال  ١٣ ايار سنة ١٨٣٤ تحت إشراف وإدارة الرئيس الروحي للدير آنذاك يواساف (١٨٤٥-١٨٧٤) الذي كان يدعى”المساهم الاكبر” وهو أحد شخصيات الرهبنة البارزة في فلسطين. شخصية الصدّيق يواساف كانت تتصف بالروحانية والتواضع، وفي عهده ولأول مرة زاد عدد رهبان دير مار سابا حتى وصل عددهم إلى ثمانين راهباً.

بالرغم من كل التقلبات السياسية التي واكبت القرن العشرين لم يواجه الدير الكثير من المشاكل بنعمة الرب و شفاعة الفائقة قدسها والدة الاله وشفاعة القديس سابا بعكس باقي اديرة البطريركية، بل ان إعادة جسد القديس سابا الى ديره بعد فترة زمنية طويلة بعدما اخذه الصليبيون (ربما من القرن الثالث عشر) كانت بركة كبيرة لاخوية القبر المقدس  ولرهبان الدير ولجميع المسيحيين الاورثوذكسيين في الأرض المقدسة واعطت رجاءً وأملاً للدير.

الحياة الروحية في الدير ساهمت في مواجهة مشاكل أخوية القبر المقدس والرعية الاورثوذكسية وحجاج المقدسات وما زالت هذه الروحانية مستمرة حتى اليوم وتؤكد أنه: “كما أن أورشليم هي ملكة كل المدن، فدير القديس سابا هو أمير الصحاري، وكما أن أورشليم هي نموذج لكل المدن فالقديس سابا هو مثال لكل الأديرة”.