1

كلمة صاحب الغبطة بطريرك المدينة المقدسة آوروشليم كيريوس كيريوس ثيوفيلوس الثالث بمناسبة عيد أبينا البار جراسيموس 17-3- 2017

هكَذَا مَكْتُوبٌ أَيْضًا: صَارَ آدَمُ، الإِنْسَانُ الأَوَّلُ، نَفْسًا حَيَّةً، وَآدَمُ الأَخِيرُ رُوحًا مُحْيِيًا… الإِنْسَانُ الأَوَّلُ مِنَ الأَرْضِ تُرَابِيٌّ. الإِنْسَانُ الثَّانِي الرَّبُّ مِنَ السَّمَاءِ .كَمَا هُوَ التُّرَابِيُّ هكَذَا التُّرَابِيُّونَ أَيْضًا، وَكَمَا هُوَ السَّمَاوِيُّ هكَذَا السَّمَاوِيُّونَ أَيْضًا .وَكَمَا لَبِسْنَا صُورَةَ التُّرَابِيِّ، سَنَلْبَسُ أَيْضًا صُورَةَ السَّمَاوِيِّ. (1كور 15 :45 & 15 :47 _49) هذا ما يُكرِزُ بهِ القديس بولس الرسول.

أيها الإخوة المحبوبون في المسيح،

أيها المسيحيون الزوار الأتقياء،

تبتهجُ اليوم صحراء الأردن في ذكرى هذا العيد الحاضر لابن الصحراء البار جراسيموس المتوشح بالله، والأب الروحي لكل الذين يكرمونه بإيمان، فقد اجتاز سلّم الفضائل الإلهية حتى بلغ معاينة مجد المسيح الذي جعله عجائبياً.

لقد صار أبينا البار جراسيموس عجائبياً، وذلك من خلال أعماله وأتعابه النسكية في هذه الصحراء حيث ديره المقدس الذي يحملُ اسمه، فقد استطاع أبينا البار أن يطرحَ صورة آدم الترابي أي آدم الخطيئة والفساد وأن يلبس صورة الإنسان السماوي أي ربنا المتجسد يسوع المسيح.

لقد نجح أبينا البار جراسيموس في هذا، وذلك لأنه طبق وصنع بالأعمال أقوال القديس بولس الرسول المُلهم من الله وَكَمَا لَبِسْنَا صُورَةَ (آدم) التُّرَابِيِّ، سَنَلْبَسُ أَيْضًا صُورَةَ (آدم) السَّمَاوِيِّ”. (1كور 15: 47-49) وهذا يعني بحسب القديس ميثوذيوس: إن صورة آدم الترابي هي التي ورد ذكرها في الكتاب المقدس في العهد القديم “إنك أرضٌ وإلى الأرضِ تعود” أما صورة آدم السماوي هي القيامة من بين الأموات وعدم الفساد.

وبالنسبة لما سبق فإن القديس بولس الإلهي يقول” أَمْ تَجْهَلُونَ (أيها الإخوة) أَنَّ كُلَّ مَنِ اعْتَمَدَ لِيَسُوعَ الْمَسِيحِ اعْتَمَدْنَا لِمَوْتِهِ، فَدُفِنَّا مَعَهُ بِالْمَعْمُودِيَّةِ لِلْمَوْتِ، حَتَّى كَمَا

أُقِيمَ الْمَسِيحُ مِنَ الأَمْوَاتِ، بِمَجْدِ الآبِ، هكَذَا نَسْلُكُ نَحْنُ أَيْضًا فِي جِدَّةِ الْحَيَاةِ؟ لأَنَّهُ إِنْ كُنَّا قَدْ صِرْنَا مُتَّحِدِينَ مَعَهُ بِشِبْهِ مَوْتِهِ، نَصِيرُ أَيْضًا بِقِيَامَتِهِ”. (رومية 6: 3-5)

لهذا فإن القديس جراسيموس يحُثُنا عبر فم القديس بولس الرسول “أنّ نَسْلُكُ نَحْنُ أَيْضًا فِي جِدَّةِ الْحَيَاةِ”. (رومية 6: 4) وهذا يعني أيها الإخوة الأحبة أننا نحن كأعضاء الكنيسة قد دُفنا مع المسيح بالمعمودية وهي أي (المعمودية) تجعلنا مشاركين في موته، حتى أنه كما قام المسيح من بين الأموات بقوة مجد الآب فهكذا نقوم نحن في حياةٍ جديدة مقدسة ذات فضيلة لكي نشابه في سلوكنا أو بالأحرى طريقة حياتنا ذلك الذي يتطلبه منا إيماننا المسيحي.

لهذه الحياة الجديدة وطريقة عيشها أي الحياة في المسيح أصبح أبينا البار جراسيموس مرشداً وقائداً للكثير من الناس متمثلاً بالقديس والنبي السابق يوحنا المعمدان والقديس بولس الرسول، لهذا فإن ناظم التسابيح يهتف مادحاً إياه قائلاً: يا جراسيموس لقد لمعت في ظلمة الحياة كابنٍ للنور وأرشدت الناس أن يسلكوا في نور الحياة الملائكية وسيرتها.

حقاً إن حياة وأعمال القديس جراسيموس تنير اليوم ظلمة الاضطراب وعدم الاستقرار التي تسود هذا العالم لهذا فقد ظهر أبينا البار ككوكبٍ نيرٍ مُشرقٌ من غنى نعمة الروح القدس.

إنّ غنى نعمة الروح القدس هذه تقدمها كنيستنا الأرثوذكسية المقدسة وبالأخص في ميدان هذا الصوم الأربعيني الكبير، والتي نحن مدعوون أن نروض ونسخر فكرنا الجسدي أو بالأحرى أهواءنا كما يقول المرتل: أيها السيد الرب يا من يسود على الجميع بما أنك متعطفٌ وصالحٌ أعطنا بالصوم والأتعاب النسكية أن نسود على أهوائنا الجسدية وملذاتنا لكي نباركك مدى الدهور.

ومن خلال الصوم أي الإمساك أصبح أبينا البار فلاحاً وصار وارثاً لملكوت الله ولثمار الروح القدس. لأن ثمار الروح القدس بحسب القديس بولس الرسول هي مَحَبَّةٌ فَرَحٌ سَلاَمٌ، طُولُ أَنَاةٍ لُطْفٌ صَلاَحٌ، إِيمَانٌ وَدَاعَةٌ تَعَفُّفٌ. ضِدَّ أَمْثَالِ هذِهِ لَيْسَ نَامُوسٌ. وَلكِنَّ الَّذِينَ هُمْ لِلْمَسِيحِ قَدْ صَلَبُوا الْجَسَدَ مَعَ الأَهْوَاءِ وَالشَّهَوَاتِ. (غلاطية 5: 22-24).

كل الذين ينتمون حقاً للمسيح قد أماتوا الإنسان الجسدي مع شهواته.

ويعلم القديس بطرس الرسول أنه من خلال قوة المسيح قَدْ وَهَبَ لَنَا الْمَوَاعِيدَ الْعُظْمَى وَالثَّمِينَةَ، لِكَيْ تَصِيرُوا بِهَا شُرَكَاءَ الطَّبِيعَةِ الإِلهِيَّةِ، هَارِبِينَ مِنَ الْفَسَادِ الَّذِي فِي الْعَالَمِ بِالشَّهْوَةِ. (2 بط 1: 4)

لهذا فإن القديس بطرس الرسول في رسالته الثانية الجامعة يؤكد على أن نصير قديسين ومشاركين في حياة المسيح بعد أن تخلصنا من فساد هذه الدنيا والتي تسبب لنا الخطيئة والشهوة.

إن شركة الطبيعة الإلهية أي الاشتراك في موهبة واستنارة الروح القدس قد نجح فيها أبينا البار جراسيموس من خلال الصيام والهروب أو بالأحرى التخلص من كل الخصال الخبيثة والعادات والأفكار السيئة.

وبكلامٍ آخر أيها الإخوة الأحبة إن أبينا البار جراسيموس يحثنا من خلال مثاله على التفكير قبل كل شيء في هدف هويتنا المسيحية من جهةٍ ومن جهةٍ أخرى أن نبذل جهدنا في خلاص نفوسنا وذلك لأن نفس الإنسان تحمل صورة الله كما يقول القديس بطرس الرسول، والأمر الذي يهدف إليه الإيمان وغايته أولاً وأخيراً هو خلاص النفوس. نَائِلِينَ غَايَةَ إِيمَانِكُمْ خَلاَصَ النُّفُوسِ. (بط 1: 9)

نتضرع نحن أيها الإخوة بحرارة إلى أبينا البار القديس جراسيموس وأم إلهنا ومخلصنا يسوع المسيح الفائقة البركات سيدتنا والدة الإله الدائمة البتولية مريم ومع المرنم نهتف قائلين: أيتها العذراء الطاهرة. لقد مجدك المسيح وجعلك عضداً وسنداً للمؤمنين. لهذا امنحينا القوة نحن الذين نسبحك في هذا الصوم. وأنت أيها البار جراسيموس الماثل لدى المسيح إلهنا مع الأبرار والقديسين. تشفع فينا نحن مكرميك والمقيمين تذكارك الشريف. حتى يؤهلنا الرب أن نجوز ميدان الصوم ونبلغ السجود لقيامة المسيح المقدسة.

آمين