1

دراسة صحفية عن كنيسة شفاء العشرة البرص في بلدة برقين

بيد هبه هريمات

في بلدةٍ لا يتجاوزُ مسيحيها ٦٨ فرداً موزعون في أحيائها الصغيرة بجوار جيرانهم من ال ٧٠٠٠ مسلم، وعلى بعد بضعة أمتارٍ من المركز التاريخي لبلدة برقين حيث تعلو منحدراً شماليّ البلدة، تقع أحد أقدم الكنائس المعمرة في العالم والتي تضيف للإرث الأرثوذكسي تاريخاً وصموداً، اسم هذه الكنيسة يحمل اسم القديس جوارجيوس، لكن قد يُتعارف عليها بشكلٍ أفضل تحت مسماها الأصلي ‘كنيسة شفاء العشرة البرص’. نعم! ففي هذه البلدة المتواضعة وبالتحديد داخل كهفٍ كان أصله صهريج ماءٍ روماني يعود عمره حالياً لأكثر من ألفي عام، وقعت معجزة شفاءٍ لعشرة من المصابين بمرض البرص الذّين كانوا، كما تقتضي شريعة موسى، معزولين فيه، وذلك لمنعهم من الاختلاط بباقي سكان مدينتهم خشية أن ينقلوا لهم العدوى، وأثناء تواجدهم في هذا الكهف، مرّ عليهم السيد يسوع المسيح عندما كان في طريقه من الجليل إلى القدس، وقام حينها. بشفائِهم.

فيروي إنجيل لوقا (إصحاح ١٧: ١١–١٩) أنه “وفيما هو منطلق إلى أورشليم، إجتاز في وسط السامرة والجليل، وعند دخوله إلى إحدى القرى استقبله عشرة رجالٍ برص، ووقفوا من بعيد ورفعوا أصواتهم قائلين: “يا يسوع المعلم، إرحمنا”. فلما رآهم قال لهم: “أُمضوا وأروا الكهنة أنفسكم”. وفيما هم منطلقين طَهُرُوا. ويكمل الإنجيلي سرد وقائع هذه المعجزة، “وإنَّ واحداً منهم لما رأى أنه قد برئ رجع يمجد الله بصوت عظيم، وخرّ على وجهه عند قدميه شاكراً له، وكان سامرياً. فأجاب يسوع وقال: “أليْسَ العشرة قد طَهُروا! فأين التسعة؟ ألم يوجد من يرجع ليمجد الله إلا هذا الأجنبيُّ؟” وقال له: “قم وامض، إيمانك خلّصَك”.

وبالتالي فقد تكون بدايات انتشار الإيمان المسيحي في هذه البلدة والمناطق المجاورة لها قد أتت بعد حدوث معجزة الرب، لكن الذين آمنوا بالسيد المسيح آنذاك كانوا يمارسون شعائرهم الدينية وصلواتهم بالخفية في داخل الكهف الذي شهد معجزةَ الشفاء، حِينَئِذٍ لم يطرأْ أي تغييرٍ على الكهف من محاولات تشييدٍ أو توسيع، فإنْ لم يكن باستطاعة الناس في ذلك الوقت على الجهر بعقيدتهم فيكف لهم أن يُصْلِحوا من حال معبدهم في ظل حكمٍ رومانيٍ متشدد ضد المسيحية آنذاك؟ واستمر الوضع على ما هو عليه حتى عام ٣٢٥ تقريباً، فبعدما آمن بالمسيح، القديسان العظيمان المعادليّ للرسل هيلانة وابنها قسطنطين وَليُ عرش الإمبراطورية البيزنطيّة، بدأت الناس تعلن إيمانها وتَثَبُتها في المسيحية وعلى إثر ذلك وحرصاً على الحفاظ على الموضع الذي كان شاهداً لهذه المعجزة، قامت القديسة هيلانة بتشييد أول كنيسة هناك في مطلع القرن الرابع.

ولكن حال الكنيسة الأولى لحادثة شفاء العشرة البرص كحالِ غيرها من كنائس فلسطين التاريخية، التي شُيِدت وتعرضت لثوراتٍ واضطهاداتٍ.. فَهُدِمَت، ثم أعيد بناؤها من جديد؛ فبعدما أن بنيت الكنيسة في عام ٣٣٦، تعرضت للهدم عام ٦١٤ على يد الفرس، ثم أعيد بناؤها في عام ٩٠٠، ثم هدمت من جديد، وأما البناء الحالي للكنيسة فقد تم تشييده في الفترة الواقعة بين عام ١٣٠٠ وعام ١٨٠٠ حسبما يروي السيد معين جبّور القائم على رعاية الكنيسة منذ عشرة أعوام بجانب الراهب پيساريون الذي قامت بتعيينه البطريركية الأرثوذكسية المقدسية قبل سنتين لرعاية الكنيسة ولرعية برقين التي يبلغ عددها حالياً ما يقارب ٥٨ فرداً.

وقد تبنّى غبطة البطريرك ثيوفيلوس الثالث وفي أول زيارة له في برقين بعد توليه زمام أُمور البطريركية الأرثوذكسية في عام ٢٠٠٦، مشروع إعادة ترميم كنيسة القديس جوارجيوس، وبالفعل بدأت أعمال البناء والتصليحات وكان أولها ترميم وإكمال الجدار المحيط بالكنيسة بغرض حمايتها، ثم انتقلت إلى ساحة الكنيسة ومنها إلى الداخل. وفي عام ٢٠١١ انتهت عمليات الترميم وأصبحت الكنيسة بصورتها الحالية.

وبالإضافة للكنيسة الرئيسية، هناك كنيسة صغيرة بجانبها، أعيد ترميمها في عام ٢٠١٠ وهي كانت في الأساس، أول مدرسة شُيدت في برقين قبل ١٢٠ عاماً، وحدثت فيها معجزة للقديس جاورجيوس، وذلك عندما ظهر القديس جاورجيوس لتلميذ مشاغب كان يشتم أُستاذه فبعد أن عاقبه وتركه وحيدا في المدرسة وأخذ بقية التلاميذ في رحلة، ظهر له القديس جاورجيوس مُؤَنِّباً إياهٌ على أخطائه وقائلاً له: سوف تلبث أخرساً حتى تعتذر من أستاذك وتنال منه السماح، وعندما عاد الاستاذ مع باقي التلاميذ لاحظوا خَطباً ما في التلميذ المشاغب عندما عجز عن الكلام، فكتب لهم على قطعة من الورق كيف ظهر له القديس جوارجيوس وبعدها طلب السماح من أستاذه فَنالَ منه الصفح، وعاد ينطق من جديد. أما الآن فتستخدم كمدرسةِ أَحَدْ للإطفال وتحوي مكتبة صغيرة وأحياناً يقام فيها قداس إلهي للسياح القادمين.

كما تحوي كنيسة القديس جوارجيوس أو ‘كنيسة شفاء العشرة البرص’ آثاراً نادرة تميزها عن غيرها من الكنائس، وهي:

1. جرن المعمودية: ويبلغ عمره ما يقارب ٩٠٠ عام، ويوجد في مركز موقع البئر القديم، ولا يزال يُستعمل حتى يومنا هذا. (أنظر صورة رقم 8)

2. الكرسي الخاص بالبطريرك: وهو الكرسي الوحيد الموجود في فلسطين المصنوع من الحجر وليس من الخشب كباقي الكنائس. (أنظر صورة رقم 9)

3. جدار قدس الأقداس: وهو أيضاً مصنوع بالكامل من الحجر القديم مثله مثل الكرسي الخاص بسيادة البطريرك، كما أن الحجر المصنوع منه يعود ل ٩٠٠ عام، ولا يزال محفوظاً بوضعه وتصميمه الأصلي كما كان. (أنظر صورة رقم 10)

4. أيقونة للسيد المسيح: تبلغ من العمر ٢٥٠ سنة، ويحتفظ بها داخل الهيكل المقدس في الكنيسة. (أنظر صورة رقم 11)

5. جثامين كهنة سابقين: عندما رُممت الكنيسة في عام ٢٠١٠، وُجدت آثار جثامين ثلاث كهنة وطفل صغير تحت أرض البئر، أثبتت الفحوصات لاحقاً أن الجثث قد دُفنت قبل ٥٠٠ عام. كما وُجدت جثامين كاهنين آخرين لاحقاً، فوضعت جثامين الكهنة الخمس في قبر خاص ملاصقٍ لجدار الكنيسة من الخارج. (أنظر صورة رقم12 )

6. قطع أثرية قديمة: عندما اكتشفت جثامين الكهنة تحت أرض البئر، وُجدت بضعة قطعٍ من الآثار مدفونة معهم، منها: إنجيلٌ باللغة العربية، صليب خشبي قديم، قناديل رومانية، خاتم بيزنطي، قارورتان تحويان زيتاً مقدساً، ميداليات خاصة بالكهنة الذين عُثر عليهم. وتتراوح أعمار هذه الآثار ما بين ٥٠٠-٦٠٠ عام كحدٍ أدنى، فمنها قطعٌ تعود للعهد الروماني، يحتفظ بها في صندوق زجاجي. (أنظر صورة رقم(13

7. بئر روماني: أثناء الإصلاحات وإعادة ترميم الكنيسة في عام ٢٠٠٧، وُجد بئر روماني في ساحة الكنيسة الخارجية، وهو مكون من ثلاث غرف تحت الأرض وله بابان، ويُعتقد بأن هذا البئر كان أيضاً يمثل مركزاً للعبادة السرية في القرن الأول أثناء عقود الاضطهاد قبل مجئ الملكة هيلانة وبنائها للكنيسة. (أنظر صورة رقم(14

بالإضافة إلى فتحتين في سقف البئر الذي آوى المصابين العشرة، وكانتا تستخدمان لإنزال الطعام والماء لهم، ولا زالتا موجودتان بشكلهما ووضعهما الأصلي حتى يومنا هذا ويمكن رؤيتهما بوضوح عند زيارة الكنيسة. (أنظر صورة رقم15)

ومن الجدير ذكره بأن التوافد السياحي على كنيسة القديس جوارجيوس في برقين قد شهد تحسناً ملحوظاً، فأعداد الحجاج وزوار الكنيسة في ازديادٍ واضح مقارنة بالسنوات الماضية، فيقول السيد معين جبور “أنه في السنوات الماضية، كانت الكنيسة تشهد زيارات مرتين إلى ثلاثة مرات في الشهر، لكن الآن هناك توافد بشكل يومي تقريباً”. أبواب الكنيسة تُفتح من الساعة الثامنة صباحاً حتى السادسة مساءً لاستقبال الزوار والحجاج من مختلف أنحاء العالم، وبعدها يتم استضافتهم في قاعة الرعية المشيّدة حديثاً بجانب الكنيسة، حيث يَطرحون ما يراودهم من أسئلة ويُعْطَون شروحات وتفاصيل عن الكنيسة وتاريخها وعن أحوال الرعية والمسيحيين في الأراضي المقدسة. (أنظر صورة رقم19)

وفي ذكرى إجراء السيد المسيح لمعجزة شفاء العشرة البرص في برقين، يُقام سنوياً قداس احتفالي يترأسه غبطة البطريرك ثيوفيلوس الثالث ومطارنة وأساقفة وكهنة مساعدين، أما بما يخص القداس الإلهي الأسبوعي لرعية برقين فيقام في كنيسة القديس جوارجيوس كل يوم جمعة ويترأسه الأب غلاكتيون (الياس) عوّاد، رئيس دير تجلي الرب في رام الله.

ngg_shortcode_0_placeholder

مكتب السكرتاريةالعام – بطريركية الروم الأرثوذكسية