1

دراسة بحثية معمقة عن بلدة سبسطية: التاريخ، الآثار، وصِلَتُها بالقديس يوحنا المعمدان

من هبة هريمات

بلدة سبسطية الواقعة على بعد ١٢كم شمال غرب مدينة نابلس، قد تبدو للوهلة الأولى أنها مجرد بلدة بسيطة متواضعة كغيرها من البلدات المجاورة لها، إلا أن هذا الأمر يتغيّر تماماً بمجرد اقترابنا من ‘الموقع التاريخي’ للبلدة. فعندما نصل إلى الساحة العامة التي تتوسط البلدة، يستقبلنا من الجهة الشمالية مبنى ضخم يُسمى بمسجد ‘النبي يحيى’، إلا أن منظره الخارجي لا يوحي بأنه صُمِمَ ليكون مسجداً، طبعاً باستثناء المئذنة؛ لأنه وفي الواقع لم يكنْ كذلك، وإنما بني هذا المسجد على أنقاض كاتدرائيةٍ(كنيسةٍ) بيزنطية صليبية والأهم من ذلك أنها تحوي قبراً لقديسٍ مجيدٍ وهو القديس ‘يوحنا المعمدان’.

وعند استكمالنا الطريق باتجاه الموقع الأثري للبلدة، نجد ساحة واسعة شبه خالية من البنيان الحديث باستثناء محلين تجاريين لبيع القطع التذكارية ومركزٍ للاستعلامات. وهنا تبدأ رحلةٌ تاريخيةٌ طويلة، تعود بنا إلى العصر البرونزي المبكر (٣٢٠٠ ق.م)، تجبرنا على الإحساسِ بشعورٍ مختلف، ربما يرجع ذلك لوقوفنا في مكانٍ شهد على تعاقبِ حقبٍ تاريخيةٍ عديدةٍ، وعلى مرور حضاراتٍ يرجع تاريخها لأكثر من ١٠٠٠٠ عام، عاشت فيها أقوامٌ كنعانية، وإسرائيلية، وهيلينستية، وهيرودية، ورومانية، وبيزنطية. نجح كلٌ منها في ترك بصمته على البلدة، ومنها مَن جعلها حصناً منيعاً له إلا عند قدوم من هو أقوى منه، فدمرها وفرض عليها مملكته الجديدة.
وتستمر سلسلة الآثار هذه وتتركز عند وصولنا إلى قمة التلة، التي تحوي آثاراً لكاتدرائية بيزنطيةٍ ثانية، تروي قصة قطع رأس القديس ‘يوحنا المعمدان’ بأمرٍ من هيرودس أنتيباس.
وبما أننا أصبحنا على رأس التلة لا يمكننا رجوع أدراجنا الآن، بل نكمل إلى الأمام، فكلُ خطوة أمامنا تمنحنا رؤيةً لما مرّ على هذه القطعة المتواضعة من الأرض، من برجٌ هيلينستي، ثم درجاتٍ رومانية لمعبدِ أغسطس، ثم يليه مدرجٌ روماني، ثمَّ نعود إلى نقطة البداية.

أول محاولة لبناء المدينة الموجودة عليها سبسطية حالياً (مع العلم أنها لم تكتسب هذه التسمية الحالية حتى عام ٢٧ق.م)، كانت في عام ٨٧٦ ق.م على يد الملك ‘عمري’ الملك السادس على عرش مملكة إسرائيل الشمالية، وبما أن موقع المدينة كان استراتيجياً بالنسبة له، كونها تقع على تلة ومعزولة تماماً وبالتالي يسهل الدفاع عنها، قرر ‘عمري’ أن ينقل مسكنه من ‘ترزة’ إلى مدينته الجديدة التي أسماها ‘السامرة’ وجعل منها عاصمةً له. ويذكر سفر الملوك الأول (إصحاح ١٦: ٢١-٢٤) أن كلمة ‘السامرة’ مشتقة من كلمة ‘سمرون’ نسبةً إلى اسم مالكها السابق الذي اشترى منه الملك التلة، وكلمة السامرة تعني ‘الحارسة’ أو ‘المراقبة’.

خَلَفَ الملك ‘عمري’ بعد وفاته ابنه ‘آحاب’، الذي قام بإجراءٍ تغييراتٍ على المدينة، بتأثيرٍ من زوجته الفينيقية إيزابيل، كان من أبرزها بناء معبد تكريماً للِبَعلْ (سفر الملوك الأول، إصحاح ١٦: ٣٢)، وانحرف عن مسار ديانته اليهودية إلى الوثنية، مما أثار غضب النبي ‘إيليا’ الذي تنبأ عن موته البشع هو وزوجته إيزابيل. ثم في زمن الملك ‘يربعام الثاني’ ازدهرت السامرة اقتصادياً، فقد شهدت فترة حكمه الطويلة تطوراً للأرستقراطية التي أصبحت رمزاً من رموز الانحطاط بنظر النبيّين ‘هوشع’ و’عاموس’. فقد تنبأ النبّي ‘ميخا’ عن سقوط السامرة بيد الأشوريين في الإصحاح ١: ٦ من سفر ميخا: “سأجعل السامرة ككومة من الحجارة في الميدان عندما يتم زرع الكرم، وسوف أسقط الحجارة منها الى الواد، وأجعل من أسسها عارية”.
وقد تحققت نبوءة ميخا في عام ٧٢١ ق.م عندما استولى الأشوريون على المدينة بعد حصارٍ استمر لثلاثة أعوام، هُزم فيها ‘هوشع’ آخر ملكٍ لإسرائيل. مما أدى إلى سقوط مملكة اسرائيل الشمالية وعاصمتها السامرة وترحيل سكانها الأصليين من الإسرائيليين إلى بابل وإعمار المدينة بسكانٍ كلدانيين.

في عام ٣٣١ ق.م دُمرت السّامرة على يد الإسكندر الثالث المقدوني (الإسكندر الكبير)، خلال سلسة معاركه ضد الإمبراطورية الفارسية، وحُوِلت إلى قرية هيلينستية بعد أن جلب الإسكندر آلافاً من جنوده المقدونيين إليها. وقد كشفت الحفريات عن ثلاثة أبراج مستديرة (أنظر الصورة ١٤) وتحصينات ضخمة مع أبراج مربعة فضلاً عن الكثير من القطع الأثرية التي يرجع تاريخها إلى فترة الإسكندر الكبير.
إلا أن التحصينات المقدونية دُمرت على يد القائد المكابي ‘جون هيركانوس’ الذي كان رجل دين يهودي رفيع الشأن، فبعد نجاحه في الاستيلاء على مدينة مأدبا بعد حصارٍ استمر ستة أشهر، توجه شمالاً باتجاه شخيم وجبل جرزيم وقام بِشّن حملة عسكرية واسعة استهدف فيها منطقة السامرة، التي استعانت ب ٦٠٠٠ جندي من الحاكم السلوقي أنطيوخوس التاسع، واستمر الحصار لسنة طويلة ومرهقة رفض فيها هيركانوس الاستسلام إلى أن ظفر بالمنطقة وأبادها كلياً في عام ١٠٨ ق.م، ووضع أهلها من غير اليهود تحت العبودية وأخضعهم إلى تبني العادات اليهودية ودمر الهيكل السامري على جبل جرزيم، مما ساهم في تثبيت مركزه عند النخبة الدينية من اليهود وخاصة المكابيين، الذين اشتهروا بتعصبهم الديني وهم الذين حدوا من انتشار اللغة والثقافة اليونانية في المنطقة آنذاك، وبقيت السّامرة تحت حكمهم إلى أن قام بإعادة بنائها الزعيم العسكري والسياسي للإمبراطورية الرومانية بومبيوس العظيم (بومبي) في ٦٣ ق.م.

وبدأت المدينة تعود إلى سابق عهدها بعد أن قام الإمبراطور أغسطس (مؤسس الإمبراطورية الرومانية والإمبراطور الأول لها) بتقديمها كهدية للملك هيرودس العظيم (ملك منطقة اليهودية في ذلك الوقت) في عام ٢٧ ق.م، الذي قام بدوره بعمليات تجديدٍ وتحسين على المدينة، وجلب ٦٠٠٠ شخص ليقطنوها. وتكريماً للإمبراطور قام هيرودس بتغيير تسميتها إلى ‘سباستي’ والتي تعني ‘أغسطس’ باليونانية. كما كرّس أيضاً المعبد الكبير الذي بناه في سبسطية إلى الإمبراطور (أنظر الصورة ١٦). وشيّد هيرودس -المعروف بحبه للفخامة-مسرحاً وملعباً والعديد من الصروح العامة في بلدته الجديدة. إلا أن معظم مباني هيرودس أعيد بناؤها لاحقاً في القرن الثاني للميلاد على زمن الإمبراطور الروماني سيبتيموس سيڤيروس، الذي قام أيضاً بتوسيع البلدة وتشييد العديد من المباني الجديدة فيها.

ومن المهم ذكره بأنه بعد قيامة السيد المسيح من بين الأموات وصعوده إلى السماوات، بدأ فيلبس، الذي كان واحداً من الشمامسة السبع بالتبشير بالإنجيل وبتعاليم السيد المسيح في سبسطية، ونجح في مهمته جداً لدرجة أن قام الرسولان بطرس ويوحنا بالانضمام إليه لاحقاً. حيث اعتمد العديد من سكان سبسطية ونالوا الروح القدس، كما يروي الإصحاح الثامن من سفر أعمال الرسل.

وفقاً للتقليد المسيحي الأرثوذكسي، أنه في سبسطية أقام الملك هيرودس المأدبة الشهيرة، احتفالاً بذكرى مولده، والتي رقصت فيها سالومي ابنة هيروديا زوجة هيرودس الملك والتي كانت سابقاً متزوجة من أخيه فيلبس، وحسبما يروي الإنجيلي مرقس في العهد الجديد (٦: ٢١-٢٩) أن الملك أعجب بالصبيّة وأقسم أن يقدم لها أي شَيْءٍ تطلبه، فخرجت وسألت أمها هيروديا التي طلبت رأس يوحنا المعمدان على الفور، لأنها كانت حانقةً عليه وتريد قتله لأنه كان يعارض وبشدّة زواج هيرودس منها كونها امرأة أخيه، لكن لم تستطع قتله لأن هيرودس كان يهاب يوحنا ويصغي إليه في أمورٍ كثيرة، لذا وجدت فرصتها الذهبية في تحقيق مطلبها لأن هيرودس لم يستطع التراجع بعد أن أقسم للصبيّة أمام ضيوفه من قوَّاد الألوف وأعيان الجليل، فلبّى للصبية طلبها على طبقٍ من الفضة، قدمته لوالدتها. ويُكمِل الإنجيلي سرد الحادثة أنه وبعدما “سمع تلاميذه جاؤوا ورفعوا جثته ووضعوها في قبر”. وفي مكان قطع رأس القديس المجيد السابق، أقيمت كنيسة بيزنطية تعود للقرن الخامس وسميت ب ‘كنيسة الرأس’، أنقاضها لا تزال موجودة إلى الآن في الجانب الجنوبي من الأكروبوليس الروماني (أنظر الصور ١،٢،٣،٤)، ويصلي فيها الحجاج عند زيارتهم إلى سبسطية.
ومن المتعارف عليه أن جسد يوحنا المعمدان قد دُفن في قبرٍ مجاورٍ لقبور النبيين ‘عباديا’ و’أليشع’. كما ورد في ترجمة دليل الأماكن المقدسة الذي جمعه ‘يوسابيوس’ حيث يصف القديس ‘جيروم’ السامرة/سبسطية بأنها “المكان الذي يحرس بقايا القديس يوحنا المعمدان”. وفي القرن الرابع للميلاد، ضمت بلدة سبسطية مجتمعاً مسيحياً متيناً، وفخوراً بحقيقة وجود قبر القديس يوحنا المعمدان في بلدتهم بجانب قبريّ النبيين سابقا الذكر. إلا أن كل ما تبقى من هذا المجتمع اليوم هو عائلة مسيحية واحدة فقط مكونة من أب وأم وثلاثة أطفال.
في حسابات المؤرخ ‘روفينوس’ عام ٣٦٢م، يذكر أن الوثنيين قاموا بتدنيس القبر أثناء ثورة الاضطهاد ضد المسيحيين بقيادة الإمبراطور جوليان المرتد، حيث لم يكتفوا بحرق بقايا القديس يوحنا المعمدان بل وبعثروا رماده للرياح، ولكن بفضل مرور بعض من رهبان دير القديس فيلبس (الواقع في القدس) من المنطقة بالصدفة، استطاعوا أن ينقذوا بعضاً من عظام القديس. وقد بنيت كاتدرائية بيزنطية تحيط بأماكن تواجد القبور إلا أن الفرس دمّروها في عام ٦١٤م.

لاحقاً، في عام ٦٣٤م استسلمت سبسطية للجيوش الإسلامية خلال فترة الفتوحات، وفي فترة الحكم الراشدي لفلسطين، ذُكرت لدى الجغرافيّ الروميّ الأصل ياقوت الحموي، في كتابه ‘معجم البلدان’ بأنها كانت “جزءٌ من ‘جند فلسطين’ على مسافة يومين من مدينة القدس وتقع ضمن مقاطعة نابلس”. ففي عهد الخلفاء الراشدين تم تقسيم بلاد الشام الى مقاطعات دُعِيَ كل منها ‘جنداً’ وتعني ‘المحافظة العسكرية’. وكان ‘جند فلسطين’ أحد الأجناد الخمسة التابعة لولاية الشام، بجانب ‘جند قنسرين’ و’جند دمشق’ و’جند حمص’ و’جند الأردن’. ويضيف الحموي في كتابه أنه “يوجد هناك قبور ليحيى، ابن زكريا، وكذلك قبور عدد من الأنبياء والقديسين.”

ثم أتت الحملات الصليبية وأزالت التقسيمات السابقة، وبعد نجاح الصليبيين في حملتهم الأولى ١٠٩٩ م قاموا بإنشاء مملكة بيت المقدس، التي شكلت أكبر ممالكهم في الشرق واستمرت لعقدين من الزمن. وخلال فترة حكمهم، أعادوا ترميم الكاتدرائية البيزنطية (في عام ١١٦٥) التي تحوي قبور القديسين بالإضافة إلى قبورٍ رومانية ملكية وعينوا أسقفاً لها، وأصبحت ثاني أكبر كنيسة في الأراضي المقدسة بعد كنيسة القبر المقدس في القدس.
إلا أنه وإثر هزيمة الصليبيين أمام صلاح الدين في معركة حطين عام ١١٨٧م تحولت الكاتدرائية إلى مسجد (أنظر الصورة ٦) يحمل اسم النبي يحيى على يد حسام الدين محمد، قريب صلاح الدين. وهذا المسجد الذي أعيد بناؤه في ١٨٩٢ لا يزال يحوي قبر القديس يوحنا المعمدان داخل مبنى صغير تعلوه قبة في ساحة الكاتدرائية القديمة/ المسجد حالياً (أنظر الصورة ٥)، ويمكن الوصول إليه عن طريق نزول ٢١ درجة من سلم ضيق (أنظر الصورة ٩) يقود إلى غرفة تحوي مجموعة القبور (أنظر الصورة ١٠) التي هي عبارة عن ستة منافذ في الجدار (أنظر الصورة ١١). وحسب ما هو متعارف عليه، فإن قبر القديس يوحنا يقع في الصف السفلي بين قبري النبيين أليشع وعباديا (أنظر الصورة ١٧).

وبالرغم من التغييرات العديدة التي طرأت على الكاتدرائية، إلا أنه يمكن وبوضوح رؤية معالمها، مثل: الجزء الكبير من الواجهة الغربية مع قطع كبيرة من الجدار (أنظر الصورة ٧)، وعدد من الأعمدة (أنظر الصورة ٨)، والجزء النصف الدائري من الكنيسة القديمة. وتهيمنُ معالم الكاتدرائية القديمة على ساحة سبسطية العامة، ومن ضمن الآثار العريقة الأخرى التي تتضمنها البلدة اليوم: بقايا شارع الأعمدة (أنظر الصور ١٢،١٣)، برج مراقبة هيلينستي (أنظر الصورة ١٤)، بازيليكا وفورم روماني (أنظر الصورة ١٥)، بالإضافة إلى الدرجات التي كانت تؤدي إلى معبد أغسطس (أنظر الصورة ١٦) وبقايا مدرج روماني.

وبعدما تأسست الإمبراطورية العثمانية في بدايات القرن السادس عشر، انضمت بلدة سبسطية كباقي فلسطين للحكم العثماني، كما ظهرت في سجلات الضرائب عام ١٥٩٦م كجزء من ناحية جبل سامي التابع للواء نابلس. وخلال فترة الانتداب البريطاني لفلسطين، أجرت سلطات الانتداب تعداداتٍ سكانية للمنطقة وبلغ العدد الاجمالي للبلدة في عام ١٩٢٢م ٥٧٢ نسمة، منهم ١٠ مسيحيين و٥٦٢ مسلم. ارتفعت هذه الأعداد في التعداد التالي الذي أجري بعد تسع سنوات لتصل إلى ٢٠ مسيحياً واثنين من اليهود و٧٣١ من المسلمين.
أخيراً وليس آخراً، بعد انتهاء الحرب العربية-الإسرائيلية وبموجب اتفاقية الهدنة ١٩٤٩م انضمت بلدة سبسطية للحكم الأردني، واستمر الوضع على حاله إلى أن انتهت حرب ١٩٦٧ والمعروفة بحرب الأيام الستة ومن وقتها أصبحت سبسطية تحت الإدارة الإسرائيلية وتابعة ل ‘المنطقة ج’ حسب اتفاقية أوسلو، وجزء من ‘منطقة يهوذا والسامرة’ حسب الاصطلاح الحكومي الإسرائيلي المستخدم لتسمية منطقة الضفة الغربية عدا القدس الشرقية.

ngg_shortcode_0_placeholder