1

دراسة عن دير القديس جوارجيوس الخوزيفي في برية يهوذا

بيد هبه هريمات

دير القديس جوارجيوس الخوزيفي المبني في داخل الصخور القديمة لوادي القلط في صحراء يهوذا، لا يُعد واحداً من أقدم الأديرة في العالم وحسب، بل وأكثرها إلهاماً في الأراضي المقدسة، فهو يجلب الهدوء والطمأنينة لكل من يزوره. هذا الدير الذي يعد من بين خمسة أديرة لا تزال قيد الاستخدام في هذه الصحراء. يقع على الطريق الرئيسي الرابط بين القدس وأريحا وعادةً ما يشار إلى هذا الطريق باسم “معالي أدوميم”. بعد اجتياز بوابة الدخول، يظل على الزوار الى هذا المكان المقدس السير لمسافة 15 دقيقة تقريباً أسفل مسار انعطافي عاصف، قد لا يكون الأمر سهلاً على كبار السن أو الأشخاص ذوي الإعاقة، إلا أنه عادة ما يوجد الكثير من السكان المحليين الذين يقدمون حميرهم للركوب لقاء مقابلٍ مادي بالطبع.
الطريق نفسه “معالي أدوميم” قد تم ذكره عدة مرات في الكتاب المقدس كونه مربوط بوقوع بعض الأحداث التاريخية، منها: سبي صدقيا إلى بابل (سفر الملوك الثاني 4:25)، قصة السامري الصالح (لوقا 10 : 25 – 37)، ورحلة يسوع من أريحا إلى أورشليم (لوقا 19:28).

ولكن ما هي “معالي أدوميم”؟
“معالي” تأتي بمعنى “مرتفع”، وفي الأساس هو الطريق إلى القدس من أريحا، ويعتقد البعض أن الاسم أدوميم الذي يعني “الأماكن الحمراء” يرجع إلى الصخور الحمراء المتواجدة هناك. احتمال آخر لمعنى أدوميم يطرحه يوسابيوس [المؤرخ المسيحي اليوناني، الذي أصبح فيما بعد أسقفاً لقيسارية ماريتيما] عندما ربط الطريق بقرية اسمها “ماليدونمني” والاسم اللاتيني لهذه القرية يشير إلى “مرتفع الدماء” وربما يرجع ذلك إلى الدم المسفوك هناك من قبل اللصوص كونها منطقة نائية. مما يذكرنا بالمثل الذي ضربه السيد المسيح لتلاميذه عن قصة السامري الصالح، حيث اختار معالي أدوميم كموقع لتلك الحادثة. أنه عندما قام لصوص بسرقة والاعتداء على رجل مار من تلك الطريق وتجاهل اثنين من نخبة اليهود لحاله (كاهن ولاوي)، اقترب منه رجل سامري كان ماراً من هناك فأخذته الشفقة عليه فتوقف لمساعدته وتضميد جراحه (لوقا 10 : 27 -37).

حقيقة ربط البعض لها بِ “وادي ظلال الموت” (مزمور 23) وخلوها من السكان، جعل من صحراء يهودا مكاناً يخشاه معظم الناس ويقتصرون على المرو بها أثناء طريقهم إلى مكان آخر، واستمر هذا الوضع على حاله حتى فترة من الزمن وربما ليومنا هذا، إلا أنه بالنسبة لفئة معينة من المجتمع قد شكّل هذا المكان “المهرب” المثالي للانعزال عن كل متاع الدنيا والانفراد في كهوف صغيرة للتعبد والصلاة والصيام متبعين في ذلك نمط “لاهوت الصحراء” كما فعل أسلافهم من العهد القديم. على مدى عقود من الزمن، كانت برية يهودا مركزاً للعديد من الرهبان الذين تبعوا خطى السيد يسوع ونمط حياته حينما قضى أربعين يوماً صائماً في الصحراء يجربه الشيطان ليكون لنا مثلا في الصوم والصلاة (لوقا 4: 1-13)، وكذلك خطى النبي إيليا والقديس يوحنا المعمدان. وقد يمتثل الرهبان أكثر بنمط حياة القديس يوحنا المعمدان كونه قد أشير إليه في الأناجيل الأربعة على أنه “صوتُ صارخٍ في البرية”، في تحقيق لنبوءة أشعياء النبي عن واحدٍ سيعد الطريق للمسيح (سفر أقوال أشعياء النبي 40:3)، وفي تمهيد الطريق لملك إسرائيل استخدم يوحنا التلال الوعرة والوديان الصخرية من برية يهودا كنايةً عن قلوب الشعب القاسية.

غالباً ما يطلق على الرهبان الصحراويين اسم “هيرميتس” “Hermits”، استناداً إلى الكلمات اللاتينية واليونانية “إريميتا” و “إريميتس” [يعني: الصحراء]. في بداية الأمر كان معظم هؤلاء الرهبان حجاجاً الى الاراضي المقدسة في زياراتٍ كانت تطغى عليها التجربة الروحية، إلا أن شغفهم الديني دفعهم إلى تفاني أعمق لله. ولربما أعدادهم التي بدأت تتزايد مع الوقت تدل على أن التجربة الروحية في براري اليهودية لها نكهة خاصة فنجد أنه خلال الفترة البيزنطية بين القرنين الخامس والسادس بعد الميلاد، حوَتْ برية يهودا أكثر من 65 دير وحوالي 10,000 – 30,000 راهب عاشوا هناك في تلك الفترة.

هناك، في وسط الصحراء يمكننا أن نعود بسهولة في الزمن إذا ما قارناها بالأماكن الأخرى في الأراضي المقدسة من ناحية إعطائنا منظراً لما كانت عليه التضاريس الجغرافية قبل آلاف السنين. وربما واحد من أفضل الأماكن للوقوف وتأمل البرية، قد يكون من شرفة دير القديس جورج الذي يطل مباشرة على الصحراء حيث يمكن لزوار هذا المكان المقدس القديم والجميل جداً الحصول على نظرة كاملة للبرية الشاسعة أمامهم.
تأسس هذا الدير الأرثوذكسي اليوناني في أواخر القرن الخامس الميلادي. ويعتقد أن الراهب يوحنا [الذي كان راهبا مصريا وانتقل إلى صحراء يهودا في عام 480 م] قد بدأ الدير بعد أن التقى مجموعة من النساك السوريين الذين كانوا يستقرون حول الكهف الذي يعتقد أنه المكان الذي كانت تغذي فيه الغربان النبي إيليا (كتاب الملوك الأول 17: 5-6 ). في حسابات أخرى للتاريخ، يظهر أن أسقف قيسارية ماريتيما في ذلك الوقت “يوانيس” قد اختار التخلي عن واجباته كأسقف وجاء إلى الصحراء، وهناك اجتذبت حياته الزاهدة عديدا من الرهبان.
وقد سمي هذا الدير بعد اثنين من أشهر رهبانه، القديس يوحنا والقديس جورج من خوزيبا، اللذين كانا المنظمين الأساسين للدير الذي ازدهر بفضلهما وجذب العديد من الرهبان. سيرة حياة القديس جورج تشير إلى أنه قد غادر قبرص في سن مبكرة لتحقيق حلمه في عيش الحياة الزاهدة في الأراضي المقدسة بعد وفاة والديه. خلال عصره أصبح الدير مركزاً روحياً هاماً في القرن السادس للميلاد.
في القرن السابع الميلادي، مر الدير بمراحل صعبة دمر فيها على يد الفرس بعد احنلالهم للأراضي المقدسة، وقتلوا جميع الرهبان الأربع عشرة الذين كانوا مقيمين في الدير آنذاك. ولكن بحلول الحملة الصليبية للأراضي المقدسة قام الصليبيون يأعادة بناء الدير في القرن الثاني عشر. بعدها يعدة سنوات مر الدير بحملات ترميم شاملة انتهت في عام 1901 تحت إشراف الراهب اليوناني “كالينيكوس”.

ومن الجدير بالذكر أن دير القديس يوحنا والقديس جورج قد شهد حوادث وفاة مؤسفة لرهبان وكهنة مخلصين كانوا قد خدموا وعاشوا هناك. أحدهم الأب أنطونيوس الذي قتل عندما سقطت عليه حجارة الجدران أثناء ترميم الكنيسة. وهناك أيضا حادث الأب جيرمانوس الذي قتل عندما كان في طريقه إلى الدير من القدس. كما أن الأب أمفيلوخيوس، الذي كان مسؤولاً عن الدير وقد ساهم إسهاماً جماً في صيانة وتجديد هذا المكان المقدس، قد توفي أيضاً في الدير بعد أن كان رئيساً له لما يصل إلى 30 عاماً.
حاليا، يتم الإشراف على الدير ورعايته من قبل الأب “قسطنتينوس”، الذي تم تعيينه كرئيس للدير من قبل غبطة بطريرك المدينة المقدسة ثيوفيلوس الثالث. وقد نجح قسطنتينوس ورهبانه في تجديد والحفاظ على المكان كما نراه اليوم.

يضم مبنى الدير المكون من ثلاثة طوابق كنيستين رئيسيتين، كنيسة السيدة العذراء وكنيسة القديس جورج الخوزيفي. كلتي الكنيستين تحويان مجموعة غنية من الرموز واللوحات والفسيفساء. إلا أن الكنيسة الثانية تتضمن أرضية فسيفسائية تعود إلى القرن السادس، كما تحوي نعشاً زجاجياً يحوي الجسد غير المتحلل للقديس يوحنا الملقب ب “الخوزيفي الجديد”، الذي كان راهباً رومانياً توفي في حوالي عام 1960 وسيم قديساً من قبل البطريركية الأرثوذكسية المقدسية في عام 2015، وفي ذكراه تقام سهرانية سنوية يتلوها قداس إلهي في الفجر يترأسه غبطة بطريرك المدينة المقدسة ثيوفيلوس الثالث.
بجانب الكنائس الرئيسية داخل الدير، هناك سلالم من الساحة الداخلية للدير تؤدي إلى كنيسة صغيرة للنبي إيليا. من هذا الكهف، يوجد نفق ضيق يؤدي إلى أعلى الجبل. أيضا يحو الدير بضعة مقابر لرهبان كانوا قد عاشوا وخدموا فيه. قصة أخرى مرتبطة بهذا الدير هي الكهف الكبير أعلاه والذي يعتقد يأن القديس يواكيم، والد والدة الإله مريم، قد حزن فيه يشدة على عقر زوجته القديسة حنه، حتى ظهر ملاك الرب له وأخبره أنها سوف ستحمل.
أخيراً وليس آخراً، هذا الدير معروف بحسن ضيافته لجميع الحجاج والزوار الذين يأتون من جميع أنحاء العالم لزيارته.

ngg_shortcode_0_placeholder