1

خطاب غبطة البطريرك كيريوس كيريوس ثيوفيلوس الثالث في حضرة صاحب الجلالة الهاشمية الملك عبد الله الثاني بن الحسين

حضرة صاحب الجلالة الهاشمية الملك عبد الله الثاني ابن الحسين المعظم

صاحب الوصاية وخادم الأَماكن المقدسة الإسلامية والمسيحية

وحامي المقدسات في القدس حفظكم الله ورعاكم

تحية مقدسية مباركة، وبعد:

نقرأ في أَفيائكم اليوم، كما اعتدنا على الدوام، جُلَّ الحُبِّ والوفاءِ للمدينة المقدسة، وفي هذه الأَيام التي تغفو بها القدسُ على جراحِها، إلاّ أَنها ترى في عيونِكم يا صاحبَ الجلالةِ بريقَ الأَمل، وتستشعرُ من نشامى وطنِكم، عُمقَ الإخلاصِ لثراها الطهور، الذي ما زالَ يحملُ طيبَ دماءِ جنودِكم البواسل، وعطرَ دمِ استشهادِ جدِّكم الملك المؤسسِ عبدُ الله الأول طيّبَ اللهُ ثراه.

لقد جئتُكم اليومَ، أَحملُ من أَرضِ المهدِ والقيامةِ، أَرضِ الأَقصى وقبةِ الصخرة، عظيمَ الوفاءِ، وأُقدمُ الشَّهادةَ من أَجلِ القدس العزيزةِ على قلبِكم المؤمن، وأَنتم صاحبَ الشرعيةِ التاريخيةِ، والوصايةِ على مقدساتها. ومن أَأَمنَمنكم عليها وأَنتم الأَعدلَ والأَوفى في حملِ قضيتِها وصونِ مقدساتِها المسيحية، كما تحافظون تمامًا على كل مداميكِ مقدساتها الإسلامية.

وهذا عهدُنا بكم يا صاحبَ الجلالة، وارثَ العُهدةِ العُمريةِ التي أَرستْ قواعدَ وأُسسَ العيشِ المشتركِ الإسلامي المسيحي، وحافظت على ازدهارِ الحضارةِ المسيحيةِ الإسلاميةِ في ديارنا المقدسة. إنَّنا نرى بكم تجليًّا واضحًا لصورةِ المحبةِ والسلامِ، التي تجسّدتْ حين التقى بطريركُ المدينةِ المقدسةِ صفرونيوس، بالخليفةِ الفاروقِ عمر بن الخطاب، ليَخُطّا معًا أَولَ تلاقٍ روحيٍّ مقدسيٍّ مسيحيّ إسلامي. ونحن اليومَ نؤكدُ على أَهمِّ مبادئالعُهدةِ العمرية، بأنَّ كنيسةُ القيامةِ للمسيحيينَ كما أنَّ المسجدَ الأقصى /الحرمَ الشريف للمسلمين. وعلى هذا الأَساس، لن تتوانى كنائسُ القدسِ عن نجدةِ المقدساتِ الإسلاميةِ، مثلما أَنَّ أَوقافَ القدسِ تذودُ عن حِمانا وممتلكاتِنا، كُلما أَلمَّ بنا خطرٌ أَو تهديد.

جئتُ لأُجدّدَ لكم المبايعة، وأَنتم تحملونَ القضيةَ الفلسطينية بجُلِّها، والقدسَ بخصوصيّتها للعالم، وتُخاطبونَ في المحافلِ الدُّولية باسمفلسطينَ من منطلقِ الشرعيةِ في وصايتِكم الأَمينةِ على مقدساتِها. جئتُبتواضعِ المهدِ وعظَمِ معاني القيامةِ، لأَضعُ بين أَيديكم الكريمتينِمِلَفَّ كنيستِنا الأُرثوذكسيةِ المقدسيةِ “أُم الكنائس”، لا لأُثْقِلَ كاهلَكم أَكثر، بل لأَنَّ الثقةَ بكم عظيمةٌ جدًا، فأَنتم الأَقدرَ أَن تخاطبوا العالمَ لا باسمِ فلسطينَ فقط بل باسمِ أُمِّ الكنائسِ أَيضًا، انطلاقًا من حرصِكم على مسيحييُ هذا المشرق المُثقلِ بالمواجعِ، وسط تزايدِ أَبواقِ التَطرُّفِ والتمييز، إلا أَنَّنا نعي أَنكم صوتُ الحقِّ الذي سيعلو ولنيُعلى عليه.

صاحب الجلالة،

أَقفُ لمبايعتِكم كما وقفَ أَعيانُ القدسِ وفلسطينُ وعلماؤها وأَحبارُها وأَهلُها في الحادي عشر من آذارعام 1924 ، يُبايعونَ جَدَّكم الكبيرَ الشريفَ حسين بن عليّ طيّبَ الله ثراه، فنجددُ لكم العَهدَ والبيعةَ، ليجمَعُنا حُبُّنا للقدسِ فنؤكدَ عُمقَ اعتزازِنا بمواقفِ الهواشمِ وبصمودِ عمانَ الأَبيّةَ المؤمنةَ الوفيّةَ التي ما توانتْ على أَن تحملَ القدسَ بكلِ الاهتمامِ والتبجيلِ من غيرِ تمييزٍ أَو تَحيز، فكانت القدسُ كلُ القدسِ بمسيحييها ومسلميها في ضميرِ الهواشمِ وفي قلوبِ الأردنيينَ جميعًا على مَرِّ التاريخ.

وفي رحابِ القدسِ الطاهرةِ تأسستْ كنيستُنا المقدسة أُولى الكنائسِ “أُمُّ الكنائس”، التي باتتْ أَملاكُها وأَوقافُها اليومَ عُرضَةً لطَمعٍ أَكبر، وثَكلى بالقيودِ، وعلى مرمىً منَ الإنتهاكاتِ. وها هي قضيةُ بابِ الخليلِ تقفُ شاهدةً على ما تمرُّ بهِ أَملاكُ كنائسِها من تآمرٍ واستيلاءٍ في محاولةٍ لتغييرِ ملامحِ وتاريخِ المدينةِ المقدسة.

يا صاحبَ الوصايةِ والجلالةِ،

إنَّ تسييسَ القدسِ والإستئثارِ بها وخرقِ الستاتيكو القائمَ فيها هو تدنيسٌ لقدسيتِها وتهديدٌ لتاريخِها ووجودِها ودثرٌ لمقدساتِها وحضارتِها، وقتلٌ لقراراتِ الشرعيةِ الدوليةِ بحقِّها، ووئدٌ للسلامِ في مدينةِ السلامِ الأُولى.

ومن أَرضِ المعموديةِ التي انطلقتْ منها البشارةِ المسيحيةِ للعالم، ندعو أَصحابَ الضمائرِ الحيّةِ والنوايا الصالحةِ للتصدي لأَي إنتهاكٍ يواجهُ القدسَ ومقدساتِها وشعبِها، والالتفاتِ لواجِبهِم في حمايةِ المدينةِ المقدسة. ولدعمِ ومساندةِ جهودِكم الجبَارةِ في حمايتِها وحمايةِ المقدساتِ فيها، لتكونَ القدسُ كما كانتْ على مرِّ العصورِ عاصمةَ القيمِ الرّوحيةِ والإنسانية، ومثالًا صالحًا للعيشِ المشتركِ بينَ الناسِ على اختلافِ أَديانِهم وقومياتِهم، لكي تبقى بركةُ ونعمةُ اللهِ حاضرة.

إنَّ القدسَ يا صاحبَ الجلالةِ، تسيرُ اليومَ على دربِ آلامٍ جديد، حيثُ عرفتْ هذه المدينةُ أَقدسَ دربٍ للآلامِ اجتازَها الربُّ والمخلِصُ يسوعُ المسيح. ولكنها اكتملتْ بالقيامةِ المجيدة، لتُعلنَ أَنَّ بعدَ الموتِ قيامةٌ وحياة. لأَنه ومهما قويَ الباطلُ وتفاقمَ الظُّلمُ سيأتي الحقَ والعدل، لأَنَّ للشرِّ تاريخُ انتهاء، وهذه هي رسالةُ كنيستِنا المقدسةِ لأَبناءِ الوطنِ في هذه الأَيامِ الصعبة، علينا أن لا نيأس بل لنتقوّى بالإيمانِ والرجاءِ والمحبة، ولنحافظْ على وحدتِنا الوطنية وعلى عيشِنا المشتركِ وعلى الوجودِ المسيحي الحيِّ في بلادِنا المقدسة، لأَنَّ كثيرين هم الذينَ يريدونَ الشرقَ بدونِ المسيحيين ونحن نقولُ لهم إنَّنا باقونَ وستظلُّ القدسَ قِبلتُنا الوحيدة، التي نُفديها بالروحِ وبكل نفيس.

وإنَّنا هنا يا صاحبَ الجلالةِ، نُقدّرُ ونُباركُ مساعيكم الموصولةَ وجهودَكم الطيبة لتثبيتِ استمراريةِ الوجودِ المسيحي والمحافظةِ عليه، واهتمامَكم المشكورَ في دعمِ شؤونِنا في البطريركيةِ الأُرثوذكسيةِ المقدسية ومواقفَكم التي تعكسُ الحرصَ والاهتمامَ بما تقومُ به الكنائسُ، إذ نرى بهذا إرثًا شرعيًّا نفخرُ به، يُجسِّدُ نموذجًا حيًّا للعلاقةِ بين المسلمين والمسيحيين يُجذِّرُ قيمَ العيشِ بين الشعوبِ والتآخي والحوارِ بين أَتباعِ الأديان.

وفي الختامِ ستبقونَ يا صاحبَ الجلالةِ في قلبِ دعائِنا أَنتمْ وأُسرتِكم الهاشمية والأردنية الكبيرة، التي لم تبخلْ يومًا على القدسِ وأَهلِها بالعون، حفظكم اللهُ العليُّ القديرُ وحفظَ أردنَّنا المباركَ وأدامَ عليه أمنِهِ واستقرارِهِ بقيادتِكم الحكيمة، وأَنتم ذخرًا وسندًا منيعًا للقدسِ الحبيبةِ وأَهلِها ومقدساتِها. وإنَّنا نبادلُ المعايدةَ ونهنئكم بعيدِ الميلادِ المجيدِ هاتفينَ مع الملائكة “المجد لله في الأعالي وعلى الأرضِ السلام وفي الناس المسرة”. آملين أَن نحتفلَ معًا وقد أَمِنت القدسُ على مقدساتِها وأَهلِها وثراها بوجودِكم معها سندًا ووصيًّا شرعيًّا نجددُ بهِ الفخرَ ونواصلُ معهُ البيعةَ والعهدَ، ونؤكدُ على قولِ جلالتكم نعم “القدسُ في وجدانِ كلِّ المسيحيينَ والمسلمينَ وستبقى لنا خالدةً الى الأبد”.

دمتم بحفظ الله ورعايته

والسلام معكم ولكم.