1

رسالةُ صاحبِ الغبطةِ بطريرك المدينةِ المقدّسةِ كيريوس كيريوس ثيوفيلوس الثّالث بمناسبةِ أعيادِ الميلادِ المجيدة 2020

تعريب قدس الأب الإيكونوموس يوسف الهودلي

 

الآبُ قَدِ ارتضى. والكَلِمَةُ صارَ جسداً.

والبَتولُ قد وَلدَتْ إلهاً مُتَأَنِّساً.

الكَوكَبُ يُبَشِّر. والمجوسُ يَسْجُدون.

والرُّعَاةُ يَتَعَجَّبُون. والخَليقَةُ تَبْتَهج.

(من أينوس عيد الميلاد).

      اليومَ تُعيدُ الكنيسةُ بفرحٍ وابتهاجٍ وبشكرٍ وتمجيدٍ للهِ الّذي تنازلَ نحوَ الإنسانِ. اليومَ تُكْرِزُ الكنيسةَ لأعضائِها مذيعةً للمسكونةِ والخليقةِ أجمع باتّصالِ واتّحادِ السّماءِ والأرضِ والتقاءِ الله والإنسان. اليومَ تمّ ما تفوّهَ بهِ الله ُإِنِّي سَأَسْكُنُ فِيهِمْ وَأَسِيرُ بَيْنَهُمْ (لاو 26: 11 & 2 كو 6: 16).  اليومَ تَحَنُّنْ الله يفوقُ عدلَهُ.  اليومَ يملأُ الله ُالخليقةَ بالصّفحِ والمغفرة. اليومَ أَرْسَلَ الله فِدَاءً لِشَعْبِهِ (لو 1: 68) اليومَ يُصَالِحُ اللهُ الْعَالَمَ لِنَفْسِهِ فِي الْمَسِيحِ. (2كو 5: 19) اليومَ يَتَغاضَى الله عَنْ أَزْمِنَةِ الْجَهْلِ (أع 17: 30) وعن خطيئةِ الإنسانِ ويَفْتَقِدُهُ في ابنهِ الوحيد وكلِمَتِهِ.

     يعملُ الله ُمِنْ أقصى محبَّتِهِ للبشرِ فقدْ سُرَّ في الأزمنةِ الأخيرةِ أن يُظْهِرَ في العالمِ كلمَتَهُ وابنَهُ الوحيدِ المحبوبِ بالجسدِ منظوراً، المساوي لهُ في الجوهرِ والجالسِ معَهُ على العُرشِ. فبحَسْبِ إنجيليِّ المحبّة” وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَدًا وَحَلَّ بَيْنَنَا” (يو 1: 14)

   بمسرّةِ الآبِ اتّخَذَ الابنُ جسداً منَ الرّوحِ القدسِ ومنَ العذراء مريم.  اتّخَذَ جسداً عاقلاً مع نفسٍ وَوُلِدَ بالجسدِ منَ البتولِ فتمّ قولُ إشعياءَ الّذي سبقَ وقالَ عنهُ هُوَذَا الْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ابْنًا، وَيَدْعُونَ اسْمَهُ عِمَّانُوئِيلَ الَّذِي تَفْسِيرُهُ: اَللهُ مَعَنَا (إش 7: 14 & متى 1: 23). كما يقولُ المرنّمُ “لقد صارَ الإلهُ إنساناً لكي يجعلَ الإنسانَ إلهاً. وكما يقول أبُ الكنيسةِ المميّزِ القديسُ أثناسيوس الكبير، لقد تأنّسَ كلمةُ الله لكي نتألّهُ نحنُ، فقد أظهرَ نفسَهُ بالجسدِ لكي يُعطينا فكرةً عن الآبِ غيرَ المنظورِ (حول التجسد ،54) وكيفَ يصيرُ هذا؟ وكيف حدَثَ الحمْلُ والولادةُ بدون زرعٍ؟ قد صارَ، كما بشّرَ الملاكُ العذراءَ قائلاً” الْقُدُّوسُ الْمَوْلُودُ مِنْكِ يُدْعَى ابْنَ اللهِ. (لو 1: 35) وأيضاً ” حيثما يشاءُ الإلهُ يُغلَبُ نظامَ الطّبيعة” كما كُتِبَ. لقد وَلَدَتِ البتولُ الإلهَ المتأنّسَ وليسَ إنساناً متألّهاً، لهذا تُعَظَّمُ كوالدةِ الإله، وقد حصلَ هذا من أجلِ إعادةِ ولادةٍ وإعادةِ جبلٍ وتغييرِ كلِّ الجنسِ البشريِّ. لقد أُخِذَ الإنسانُ منَ الله ِفي المسيح ِلكي يُشاركَ الألوهةَ الّتي كما يقولُ بطرس الرّسول شُرَكَاءَ الطَّبِيعَةِ الإِلهِيَّةِ (بطرس 2: 1 و4) وخَلِيقَةٌ جَدِيدَةٌ بحسبِ رسولِ الأمم (كور 2: 5: 17) إنَّ هذا التّغييرَ البهيَّ الفائقَ الجمالَ للإنسانِ أي تغيّرهُ من أرضيٍّ لإنسانٍ سماويٍّ يتحقّقُ سرّيّاً وبالفعلِ بتعاونِ الإنسان، وذلك لأنَّ المسيحَ المتأنسَ قدْ أخذَ كلَّ الإنسانِ كما ترتّلُ الكنيسةُ: لقد اتَخَّذْتَ كُلُّكَ كُلَ ما هو لي باتّحادٍ لا اختلاطَ فيه.

      إنَّ هذا السّرَّ الّذي يشْهَدُ على نزولِهِ وابتدائِهِ منَ السّماءِ ومنَ اللهِ يتحقّقُ في مجرى تاريخِ البشريّةِ قدْ تمَّ الإعلانُ عنهُ زمنَ اكتتابِ النّاسِ في كلِّ المسكونةِ على عهدِ الإمبراطور الرّومانيّ أُكتافيوس أُغسطس قيصر في أرضِ بيتَ لحم المقدّسة الّتي ليستْ بِصُغرى، ولهذا دُعيتْ أنْ تشاركَ الخليقةَ كلَّها، فالسّماويّونَ عبر النّجمِ البهيِّ يقودونَ منِ بعيدٍ المجوسَ الحكماءَ ملوكَ الفرسِ مستكشفي النّجوم والكواكب كبدايةِ الكنيسةِ الّتي منَ الأمم. والملائكةُ من السّماءِ يرتّلون: “الْمَجْدُ للهِ فِي الأَعَالِي، وَعَلَى الأَرْضِ السَّلاَمُ، وَفي النَّاسِ الْمَسَرَّةُ” يدعونَ الرّعاةَ الساهرين وفلاحي الأرضِ في القريةِ المجاورةِ قريةِ الرّعاة. والمجوسُ والرعاةُ معاً يأتونَ إلى الموضعِ منحنيينَ بتقوى وساجدينَ مقدّمينَ هداياهم لأنّهم مُتَعَرِّفونَ على المنزَّهِ عن الزّمانِ طِفلاً موضوعاً في الْمغارةِ.

           إنّ الّذي لَبَسَ الجسدَ لأجلِنا وظهرَ بالجسدِ كطفلٍ صغيرٍ ووُلِدَ في المغارةِ وأُضْجِعَ في المذودِ وأدرجَ في الأقمطةِ. وهوَ الّذي لَمَّا ابْتَدَأَ كَانَ لَهُ نَحْوُ ثَلاَثِينَ سَنَةً (لوقا 3: 23) وأُومِنَ به وعُرفَ أنّهُ يسوعُ المسيح ابنُ اللهِ وابنُ الإنسانِ الّذي من النّاصرة، الإلهُ المتأنّسُ في أقنومِهِ الواحدِ في طبيعتَيْنِ وفِعْلَيْنِ وإِرادَتَيْنِ “فهوَ الّذي مَسَحَهُ اللهُ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ وَالْقُوَّةِ، الَّذِي جَالَ يَصْنَعُ خَيْرًا وَيَشْفِي جَمِيعَ النّاس (أعمال 10: 38) وبالصّليبِ وبعد قيامتِهِ منْ بَيْنِ الأمواتِ وصُعودهِ إلى السّماواتِ أصعدَ معهُ الطَّبيعَةَ الْبشريَّةَ إلى السَّماءِ وَأَجْلَسَها عنْ يمينِ الآبِ وألّهَها.

       جلسَ المسيحُ عنْ يمينِ الآب ِوأرسلَ منه روحَهُ، الرّوحَ المعزّي، روحَ استنارةِ الذّهنِ وقوّةِ الفكرِ لتلاميذِهِ. إنَّ عملَهُ هذا عملُ مصالحةٍ للهِ مع الإنسانِ، وعملُ سلامٍ ومحبّةٍ وأيضاً نحوَ الأعداءِ، والتّقديسِ ومغفرةِ الخطايا، يُتَمّمُهُ إلى منتهى الدهرِ جسدُ المسيحِ أي الكنيسةُ الّتي أَحَبَّها وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِهَا، (أفسس 5: 25) الّذي هو رأسُها. إنَّ الكنيسةَ ليستْ شاهدةً فقط على الأرضِ لحضورِ تجسّدِهِ المحسنِ بلْ هيَ تستمرُّ في عملِهِ. وهيَ تأخذُ الإنسانَ من البدايةِ حتّى نهايةِ حياتِهِ وتجعلُهُ بالمعموديّةِ عضواً بِها وتُجمِّلُ وتهذّبُ أخلاقَهُ وترفُضُ العنفَ بجميعِ أشكالِهِ وتُطْعِمُ الجياعَ، وتُخرِجُ المأسورينَ وهيَ واحةُ يُنبوعِ ماءٍ حيٍّ للّذين في الصّحراءِ والوحيدينَ في هذا العالمِ ومكانُ صلاةٍ منْ أجلِ شفاءِ المصابينَ بمرضِ” كوفيد 19 “المُعدي وتقديِمِ المساعداتِ المتنوّعةِ للمتضرّرينَ جراءَ الوقايةِ منْ هذهِ الجائحةِ.

      إنَّ عَمَلَ كنيسةِ آوروشليمَ مع َأخويّةِ القبرِ المقدّسِ حفظُ الأماكنِ المقدّسةِ والعملِ في الأراضي التّاريخيّةِ لظهورِ المسيحِ بالجسدِ ،واليومَ وفي مكانِ ولادةِ المسيحِ بالجسدِ في هذهِ المغارةِ المتواضعةِ القابلةِ الإلهِ والمذودِ الصّغيرِ وَمِنْ هذهِ الكنيسةِ الملكيّةِ الّتي مِنْ عَهْدِ الأباطِرَةِ قسطنطين ويوستينيانوس وبينما هيَ ترتّلُ بفرحٍ ” قد وُلدَ لنا صبيٌّ وابنٌ أُعطينا ” تُصلّي من أجلِ سلامِ كلِّ الشّرقِ الأوسطِ ومنْ أجلِ سعادةِ أبناءِ رعيّتِها على هذهِ الأرضِ وفي كلِّ أرض، وعودةِ الزّوارِ الأتقياءِ المعيّدينَ معنا في أمِّ الكنائسِ وفي أمِّ الأعيادِ، في هذا المكانِ حيثُ وُلدَ رئيسُ السّلامِ.

في مدينةِ بيتَ لحمَ المقدَّسَةِ

عيدُ الميلادِ المجيدِ 2020

الدّاعي لَكُم بحرارةٍ للرَّبِّ

ثيوفيلوس الثالث

بطريرك أوروشليم