عيد القديس أبينا البار جيراسيموس الأردني

إحتفلت البطريركية الأورشليمية يوم أحد مرفع الجبن الموافق 17 آذار 2024 (يعادله 4 آذار شرقي) بعيد القديس البار جيراسيموس الأردني في الدير المقدس المُكرس على إسمه الواقع على الضفة الغربية لنهر الأردن أمام مصبه عند البحر الميت.

في هذا اليوم تقيم الكنيسة تذكار القديس جيراسيموس الذي يرجع أصله من ميرا التي من ليكيه في آسيا الصغرى, ومنذ صغره كرس نفسه لله وللحياة الرهبانية. جاء الى الأرض المقدسة حوالى عام 451 ميلادي. تنسك في عدة أديرة  في صحراء الأردن وعاش حياة الزهد والصوم والتواضع وكرّس حياته الروحية مع القديس إفثيميوس الكبير. دعاه رهبان الصحراء ليكون مرشدهم الروحي, وأسس لهم مع القديس كيرياكوس ديراً مبني بنمط اللافرا أي مجموعة كهوف مع دير مركزي الذي فيه كان معلماً للرهبان وأباً روحياً للكثير من المسيحيين, بعدها كُرس الدير على إسمه. رقد في الرب سنة 475.

في هذه المناسبة أقيمت خدمة القداس الإلهي ترأسها صاحب الغبطة كيريوس كيريوس ثيوفيلوس الثالث يشاركه سيادة متروبوليت كابيتولياذا كيريوس إيسيخيوس, سيادة رئيس أساقفة قسطنطيني كيريوس أريسترخوس, سيادة رئيس أساقفة أنثيذون كيريوس نيكتاريوس الوكيل البطريركي في القسطنطينية, سيادة رئيس أساقفة بيلا كيريوس فيلومينوس, آباء من أخوية القبر المقدس, الأرشمندريت متايوس، والوكيل البطريركي في موسكو الأرشمندريت استيفانوس، الوكيل البطريركي في أثينا الأرشمندريت رافائيل، والأرشمندريت أمفيلوخيوس, كلاوديوس, إيرونيموس, وكيرياكوس، المتقدم في الشمامسة الأب ماركوس والشماسان المتوحدان إفلوجيوس وذوسيذيوس. قاد الترتيل سيادة رئيس أساقفة مادبا كيريوس أرستوفولوس يشاركه طلبة المدرسة البطريركية، فيما حضر القداس جمع من المؤمنين المحليين والحجاج من قبرص والقنصل العام اليوناني في القدس السيد ديمتريوس أنجيلوسوبولوس.

قدس الأرشمندريت خريسوسوتوموس الرئيس الروحي للدير إستضاف الوفد البطريركي مع الآباء والمصلين على مائدة طعام في قاعة الدير.

يذكر ان قدس الأرشمندريت خريسوستوموس هو مُرمم ومجدد الدير الحالي, وقام بتزيين الدير والكنيسة بالفسيفساء الجميلة, وبنى المبنى المجاور للكنيسة، وأنشأ مركزًا للحجاج والعمل والاجتماعي, ودار للمسنين لآباء القبر المقدس.

كلمة صاحب الغبطة بطريرك المدينة المقدسة آوروشليم كيريوس كيريوس ثيوفيلوس الثالث في عيد القديس جراسيموس الأردني 

يهتف صاحب المزمور قائلاً: عَيْنَا الرَّبِّ نَحْوَ الصِّدِّيقِينَ، وَأُذُنَاهُ إِلَى صُرَاخِهِمْ. (مز 33: 16 )

أي أن عينا الرب دائما منصوبةً على خائفيهِ وأذناه دائماً بانتباهٍ إلى توسلاتهم وتضرعاتهم.

أيها الأخوة المحبوبون بالرب يسوع المسيح،

أيها المسيحيون الزوار الأتقياء

إن نعمة الروح القدس قد جمعتنا اليوم في هذا المكان والموضع المقدس عند صحراء الأردن حيث لافرا أبينا البار المتوشح بالله جراسيموس الذي من ليكيا، لكي نكرم تذكار عيده الموقر في ديره.

لقد استبان أبينا البار جراسيموس المغبوط من الآباء العظام السوّاح الذين لمعوا في النسك في فلسطين في القرن الخامس الميلادي. وأثناء زيارته وحجه إلى الأراضي المقدسة استقر بشكل دائم في برية الأردن هذه، حيث شيّد لافرا “ديراً عظيماً” والتي أضحت منارة وفخراً بحسب شهادة كيرلس سيكثوبوليتس كاتب تاريخه إذ يقول: عندما كان القديس سابا في عمر الخمس والثلاثون توجهَ إلى الصحراء الشرقية بالقرب من القديس جراسيموس، لأن القديس جراسيموس كان آنذاك ككوكبٍ لامعٍ ينيرُ كل صحراء الأردن بالتقوى وبطريقة ما كان يبذر بذار التقوى.

حقاً قد أشرق جراسيموس العظيم ككوكب منير عظيم، يشع بنور محبة المسيح باذراً بذار التقوى أي الإيمان الأرثوذكسي الصحيح والخلاصي، وهذا الحدث يؤكد عليه بوضوح العلاقة الروحية التي كانت بين القديس جراسيموس وأفثيميوس العظيم عندما التقى فيه في صحراء الروبة خلال فترة الصوم، إذ يشهد كيرلس سيكثوبوليتس قائلاً :”في زمن الصوم المقدس، أخذ القديس جراسيموس الأنبا كيرياكوس معه إلى برية الروبة الجدباء؛ حيث عاشوا في عزلة وهدوء حتى أحد الشعانين يتناولون الأسرار الطاهرة كل يوم أحد من يدي العظيم افثيميوس. وبعد وقت قصير، عندما رقد العظيم القديس افثيميوس في المسيح، رأى القديس جراسيموس روحه تقودها الملائكة وتُصعدها إلى السماء؛ ومن ثم ّأخذ الأنبا كيرياكوس وصعد إلى عائداً إلى ديره بعد أن دفن جسده.

لقد اختار أبينا جراسيموس حياة الهدوء في الصحراء سامعاً لأقوال المزمور الداؤودية:” هائنذا قد ابتعدتُ هارباً وسكنت البرية (مزمور 54: 8) وبالأخص في صحراء الأردن حيث كان الناسك السائح الأول القديس النبي يوحنا المعمدان يكرز قائلاً: «تُوبُوا، لأَنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّماوَاتِ. (متى 3: 1-2).

في هذه الصحراء، في برية الأردن كان لدى البار جراسيموس الوقت الكافي لكي يدرس ويثابرَ في عزلتهِ وصومهِ وصلاته غير المنقطعة عن معرفة الله بحسب ما هو مكتوب في سفر المزامير “ثابروا واعلموا أني أنا هو الله” (مزمور 45: 11)

ويفسر القديس العظيم أثناسيوس أقوال المزمور هذه قائلاً: إذا لم يتركُ الإنسانٍ كلَّ الاهتمامات العالميّة لا يستطيع أن يعرف الله وأما القديس باسيليوس فيقول: إن هذه المثابرة أي “التوقف عن الانشغال بالأمور العالمية” هي مثابرة صالحةً تُعطي هدوءً للنفس وقدرةً على فهم التعاليم الخلاصية.

إن هذه المعرفة للتعاليم الخلاصية ليست هي إلا من الحكمة الإلهية والتي بحسب سليمان الحكيم: لأَنَّهَا ضِيَاءُ النُّورِ الأَزَلِيِّ، وَمِرْآةُ عَمَلِ اللهِ النَّقِيَّةُ، وَصُورَةُ جُودَتِهِ.. تَحِلُّ فِي النُّفُوسِ الْقِدِّيسَةِ؛ فَتُنْشِئْ أَحِبَّاءَ للهِ وَأَنْبِيَاءَ (حكمة سليمان 7: 26-27).

لقد كان واضحاً بالحقيقة، أن ذهن وعقل أبينا البار المتوشح بالله جراسيموس كان مرآة نقية تعكسُ أعمال الله الصالحة ،فبحسب رسالة القديس يوحنا الإنجيلي: نَعْلَمُ أَنَّ ابْنَ اللهِ قَدْ جَاءَ وَأَعْطَانَا بَصِيرَةً لِنَعْرِفَ الْحَقَّ. وَنَحْنُ فِي الْحَقِّ فِي ابْنِهِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ. هذَا هُوَ الإِلهُ الْحَقُّ وَالْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ.(1 يوحنا 5: 20).

إن العشق الإلهي لملكوت المسيح السماوي هي قوة الفعل الإلهي والتي تُعلِن وتُكشِف لأولئك الذين يملكونَ قلوباً طاهرةً نقيةً، نور الحياة الأبدية الساطع، وما هذا النورُ إلا المسيح ابن وكلمة الله، لهذا السبب بالذات يتميز قديسي الكنيسة بشكل خاصٍ فمنهم، الشهداء والسّواح ونساك الصحراء، لهذا فالقديس الشهيد في رؤساء الكهنة اغناطيوس المتوشح بالله يقول: لقد صُلب حبي الشهواني وما عاد في داخلي أي نار لاشتهاء الماديات، بل يتكلم في باطني الماء الحي قائلاً “تعال إلى الآب “لم أعد أتلذذ بطعام فاسد أو بلذة هذه الحياة. أريد خبز الله الذي هو جسد المسيح من نسل داود والشراب الذي أريده هو دمه، الذي هو المحبة عديمة الفساد.

وأما القديس يوحنا الذهبي الفم الذي عاش ناسكاً يقول: “أنا أحبُ جميع القديسين ولكن بالأكثر المغبوط القديس الرسول بولس، وهذا أقوله لكم لكي تحبوهُ أنتم أيضاً كما أحبهُ أنا، فمن الطبيعي أن البشر الذين يحبون بطريقةٍ جسدية يخجلون أن يعترفوا بهذا الحب، ولكن أولئك الذين يحبون بطريقة روحية لا يخجلون أبداً أن يعترفوا ويبوحوا بهذا الحب وذلك لإن الحب الجسدي هو جريمةٌ أما الحب الروحي فهو مغبوطٌ وممدوحٌ.

إنها حقيقةٌ أيها الإخوة الأحبة أن المسيحيون يشاركون ويساهمون بالقداسة الإلهية “التي للقديسين” من خلال موهبة الروح القدس فيصبحوا بذلك هياكل مقدسة وأمة مقدسة فها قد اتضح لماذا نُكرِمُ ونمتدحُ القديسين، كالقديس المغبوط جراسيموس الذي نعيد له اليوم. فهامة الرسل القديس بطرس يؤكد في رسالتهِ قائلاً:” وَأَمَّا أَنْتُمْ فَجِنْسٌ مُخْتَارٌ، وَكَهَنُوتٌ مُلُوكِيٌّ، أُمَّةٌ مُقَدَّسَةٌ، شَعْبُ اقْتِنَاءٍ، لِكَيْ تُخْبِرُوا بِفَضَائِلِ الَّذِي دَعَاكُمْ مِنَ الظُّلْمَةِ إِلَى نُورِهِ الْعَجِيبِ. (1بطرس 2: 9).

وبكلام آخر أيها الإخوة نحن المسيحيين “جنسٌ مختار” لذلك علينا أن نقدم لله عِبَادَتَنا الروحية الْعَقْلِيَّةَ وأَنْ نُقدم ذواتنا ذَبِيحَةً حَيَّةً مُقَدَّسَةً مَرْضِيَّةً عِنْدَ اللهِ. (رومية 12: 1) كما يكرز الرسول بولس. وبذه الطريقة نكون قد امتثلنا وأطعنا لدعوة المسيح لنا :”مَنْ أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائِي فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعْنِي.(مرقس 8: 34) ومن الجهة الأخرى نقتدي بأبينا البار جراسيموس لكي بتوسلاته وبتضرعات الفائقة البركات المجيدة سيدتنا والدة الإله الدائمة البتولية مريم إلى الله أن يؤهلنا أن نجتاز ميدان الصوم الأربعيني الكبير المقدس بتوبةٍ وعفة وإمساك وصبر وتواضع ومع المرتل نهتف ونقول أنك أيها البار ماثل أمام المسيح مع الأبرار والصديقين، فلا تنفك متشفعاً من أجل سلام أرضنا المعذبة والعالم أجمع. آمين

كل عام وأنتم بألف بخير

صوماً أربعينياً مباركاً

مكتب السكرتارية العامة