غبطة البطريرك الأورشليمي كيريوس كيريوس ثيوفيلوس الثالث يوجه نداءً لحماية الحقوق المسيحية في المدينة المقدسة أورشليم

عُقد مساء يوم السبت 12 آب 2017 في العاصمة الأردنية عمّان مؤتمر صحفي لغبطة البطريرك كيريوس كيريوس ثيوفيلوس الثالث بطريرك المدينة المقدسة أورشليم في مقر مطرانية الروم الأرثوذكس.
غبطة البطريرك وفي بث حي ومباشر طرح آخر المستجدات في ما يُعرف بقضية باب الخليل التي تمت المؤامرة فيها على املاك البطريركية في عام 2005 زمن البطريرك السابق والمعزول إيرينيوس على يد مستشاره المالي المدعو نيكولاس باباذيماس بقيام الأخير إبرام عقود غير قانونية تمنح شركات إستيطانية، حق الإيجارة طويلة الأمد لعقارات تابعة للبطريركية في البلدة القديمة. وأكد غبطته رفض البطريركية الواضح لحكم المحكمة الإسرائيلية الذي يُعطي الحق بشكل غير شرعي لمجموعة من المستوطنين من حركة “عطيريت كوهانيم” للإستيلاء على العقارات بشكل غير عادل ومنافي للمجريات القانونية العادلة واعتبره قرار يهدد الوجود المسيحي في الاراضي المقدّسة.

كما وأكد غبطة البطريرك رفضه القاطع لمشروع قانون طرح في الآونة الاخيرة للكنيست الاسرائيلي يقضي بمصادرة املاك الكنائس وتحويلها لأملاك الدولة. واعتبره تعدي غير مسبوق على إستقلالية الكنائس وحقها المشروع في حرية التصرف بممتلكاتها.

غبطة البطريرك دعا لعقد اجتماع طارئ لرؤساء الكنائس لتنسيق رفضهم ومواجهتهم لهذه التطورات الخطيرة ووجّه نداءً لجميع بطاركة العالم ورؤساء الدول بما فيهم الرئيس ترانب وبوتين وجلالة الملك عبد الله الثاني والرئيس محمود عباس والرئيس رفلين ورئيس الوزراء اليوناني والقبرصي وغيرهم، لحماية الحقوق المسيحية ودعا للوقوف الى جانب البطريركية لمواجهه هذه الأساليب والأحكام التي تحاول تجريد المسيحيين في الأراضي المقدسة من حقوقهم وإنتمائهم. وأكد غبطة البطريرك ثيوفيلوس الثالث على أن البطريركية الأورشليمية ستطعن بالحكم وسترفع القضية للمحكمة العليا الاسرائيلية لاعادة النظر بالحكم الصادر.

(كلمة غبطة البطريرك كيريوس كيريوس ثيوفيلوس الثالث في المؤتمر الصحفي في مطرانية عمان الأردن)
مساء الخير
نشكر حضوركم جميعا لهذا اللقاء الصحفي
نحن هنا اليوم لنطلق هذه الرسالة من أراضي المملكة الأردنية الهاشمية، بقيادة صاحب الجلالة الملك عبدالله الثاني، الوصي على المقدسات الإسلامية والمسيحية في الأراضي المقدسة استنادًا لقوانين الستاتيكو والقوانين والمواثيق الدولية.

على مدى الأسابيع الماضية، كانت مدينتنا المقدسة تجتاز موجات مضطربة من التطورات التي قذفت ببطريركيتنا، جنبًا إلى جنب مع جميع الكنائس والمجتمعات المسيحية الاخرى في الأراضي المقدسة، في بحار هائجة من التوتر والأجندات السياسية. وآخرها القرار المعروف بقضية باب الخليل، الذي تجاوز كل حدود العدالة والمعقول.
لقد تحملنا وبضمن، وكنا شاهدين على حملة قاسية ضدنا وضد بطريركيتنا. حملة نمت بقوة يوم بعد يوم باتهامات زائفة وقذف استهدف تراثنا ونزاهتنا. واليوم، إنه نداء واجبنا والتزامنا، الذي ائتمنا عليه من قبل الله، الذي قادنا لكسر صمتنا والقول: كفى، تعني كفى.

ونحن مضطرون لاتخاذ هذا الإجراء غير المسبوق في الدعوة لهذا المؤتمر الصحفي للرفض علنًا وبطل وضوح الحكم غير العادل الصادر عن المحكمة المركزية الإسرائيلية في قضية باب الخليل. هذه المعركة القانونية التي دامت عقدًا من الزمن أدت إلى قرار غير عادل تجاهل كل الأدلة القانونية الواضحة والراسخة التي قدمتها البطريركية وأثبتت من خلالها سوء النية والرشوة والتآمر. هذا القرار، لمصلحة مجموعة المستوطنين “عطيريت كوهانيم”، لا يمكن تفسيره إلا بأنه ذو دوافع سياسية.
إن هذا القرار المتحيز، الذي لا يؤثر على البطريركية فحسب، بل يضرب أيضًا في قلب الحي المسيحي (حارة النصارى) في البلدة القديمة، يأتي في ظروف هشة ووقت حساس للغاية، وسيكون له بالتأكيد أكثر الآثار السلبية على الوجود المسيحي في الأراضي المقدسة. ويمكن أن يؤدي ذلك إلى تصعيد وتوتر خطير في مجتمعنا، الشيء الذي نعمل جميعًا جاهدين على احتواءه. سنبدأ عملية الاستئناف أمام محكمة العدل العليا، حيث نثق بأن يكون هنالك قرارًا يستند فقط إلى الأمور القانونية والإجرائية والعدل. وستستنفذ البطريركية الآن كل ما في وسعها لقلب هذا الحكم الظالم.

ومما يزيد من حدة قلقنا بشأن قضية باب الخليل هي الإجراءات الأخيرة التي اتخذها 40 عضوًا في الكنيست الإسرائيلي، بتوقيعهم قبل أسبوعين على مشروع قانون مقترح للنقاش في البرلمان الإسرائيلي، وإذا ما أقرّ، فإنه سيقيد بشدة حقوق الكنائس في التعامل بحرية واستقلالية مع أراضيها، ويهدد بمصادرة تلك الأراضي. إن هذا القانون هو محاولة واضحة لحرمان بطريركتنا البالغة من العمر 2000 سنة، وكذلك حرمان أشقائنا الكنائس الأخرى الحاضرة لقرون في الأراضي المقدسة، من حريتنا واستقلالنا المشروعين والتاريخيين. إن هذا المشروع الذي لا يمكن تحمله، إذا ما تم إقراره، سيكون انتهاكًا واضحًا وخطيرًا لكل معاهدة دولية تحكم المنطقة، وسيكون اعتداءً مرفوضًا على حرية العبادة.

إننا ندعو إلى عقد اجتماع عاجل لرؤساء كنائس الأراضي المقدسة لتنسيق رفضنا وردّنا لهذه التطورات الخطيرة والمخيفة التي لن تؤثر على المجتمع المسيحي الأصيل في الأراضي المقدسة فحسب، بل على كل مسيحي في جميع أنحاء العالم، الذي يعتبر القدس والأراضي المقدسة ذات أهمية وبعد روحي عميق.

ونحن لا نزال ملتزمين التزامًا تامًا بدعم مهمتنا الراعوية والروحية كما أوكلتها إلينا العناية الإلهية. وحتى نحن نواجه هذه التطورات غير المسبوقة والخطيرة، نطمئن مجتمعنا المسيحي الحبيب في أرضنا المقدسة، وكذلك في منطقتنا الشرق أوسطية، وفي العالم أجمع، بأننا في بطريركية القدس، وأخوية القبر المقدس، سوف نبقى أوفياء لمهمتنا، كأوصياء وخدم لقبر السيد المسيح المقدس وجميع المواقع المقدسة. وسنبذل كل ما في وسعنا لدعم وصون ممتلكات البطريركية وزملائنا من الكنائس، وسنكون ثابتين في حماية الوجود المسيحي في المنطقة، فالحكم في قضية باب الخليل، ومشروع القانون المقترح في الكنيست على حد سواء لهم اعتداءات خطيرة على ذلك.
ولا نستطيع إلا أن نؤكد بشدة على خطورة هذه الحالة.

وندعو الرئيس ترامب، والرئيس بوتين، والملك عبدالله الثاني، والرئيس عباس، والرئيس ريفلين، ورئيس الوزراء تسبيراس، والرئيس انستسياديس، والأمين العام غوتيريس، والرئيس جونكر، بالإضافة إلى جميع إخواننا رؤساء الكنائس في العالم، والمجتمع الدولي، للتدخل الفوري والعاجل لضمان العدالة والحرية في هذه المسائل. فالعدالة في هذه الحالة لن تعود بالنفع على المجتمع المسيحي هنا فحسب، وإنما على جميع مواطني الأراضي المقدسة. حتى يتسنى لجميع الذين يسمون مدينة القدس الشريف والأرض المقدسة وطنهم أن يعيشوا في الحرية والسلام.
إننا نتوجه إلى الله العظيم بالدعاء بأن يقوينا وإخواننا في هذه الأوقات الصعبة والقاسية. وندعو الله أن يكلل جهودنا بالنجاح لإظهار الحق وتحقيق السلام.
شكرا لكم

كلمة غبطة البطريرك باللغة الإنجليزية:
http://www.jp-newsgate.net/en/2017/08/12/34370

بعد كلمة غبطة البطريرك قام قدس الأرشمندريت خريستوفوروس بالإجابة على أسئلة الصحفيين فيما يخص طريقة إدارة ممتلكات البطريركية الأورشليمية والحفاظ على حقوق المسيحيين في الأراضي المقدسة بشكل عام وفي المدينة المقدسة أورشليم بشكل خاص ومحاولة مواجهه كل الظروف والصعوبات والضغوطات التي تُمارس من قِبل جهات لها أهداف محددة ضد البطريركية الأورشليمية والكنائس المسيحية الأخرى.

مكتب السكرتارية العام – بطريركية الروم الأورثوذكسية




قرية معلول الفلسطينية – كل ما تبقى آثارٌ دينية

من هبه هريمات

على بعد ١٢ كم غربي مدينة الناصرة، تقودنا طريقٌ ترابية وعرة إلى تلةٍ مغطاة بأشجار من الصنوبر، للوهلة الأولى قد توحي لنا غابة الصنوبر هذه بالشموخ والسيطرة، ولكنها وهي تتدرج صعوداً إلى قمة التلة، التي تعلو ٢٧٥ متراً عن سطح البحر، لا تنفك تعطينا إيحاءً بالوحدة. وإذا نزلنا من مركبتنا وسرنا قليلاً على أقدامنا سنلاحظ أنه وفي طياتِ التراب الذي تدوسه نِعالُنا، يوجد بعضٌ من قطعٍ رمادية صلبة، وقد لا ندرك إلا متأخرين أن هذه القطع ما هي إلا بقايا أجزاءٍ من جدران بيوتٍ هُجّر أهلها خوفاً من أن يكون مصيرهم مشابهاً لمصير حجارةِ بيوتهم. أصل البقعة التي نقف فيها الآن يعود إلى زمن الكنعانيين، وأصل هذه التلة التي نحن في صدد استكشافها هو قرية، ولغاية فترة معينة كان أصل هذه القرية فلسطيني.

وبما أن قرية معلول لم تعد آهلة بالسكان، فمن الصعب علينا أن نجد أياً من كبار السن الذين يتحملون عادة مسؤولية رواية قصة أو تاريخ قراهم، فملجأنا الوحيد الآن هو الكتب. ومن المثير للاهتمام أن معلول قد ذكرت في عدد من الكتب التاريخية والجغرافية. ففي كتاب “بلادنا فلسطين” لمصطفى الدباغ على سبيل المثال نجد أن المعنى وراء اسم “معلول” قد يعني “المدخل” أو “البوابة”. وهذه القرية يُعتقد أنها بنيت على المكان الذي حضن سابقاً قرية ‘أهالول’ الرومانية. خاصة وأنه بالقرب من القرية يوجد ضريح روماني فخم، سمي آنذاك ب “قصر الدير”، ويعتبره البعض دليلاً على أن المكان كان آهلاً بالسكان في فترة العصر الروماني. أما أراضي القرية فقد بلغت مساحتها الإجمالية في عام ١٩٤٥، ٤٦٩٨ دونماً منها ٣٠ دونماً مقتطع للطرق والوديان، و٢٧١٩ دونماً أملاك لليهود، و٧٠٠ دونماً مزروعة بأشجار الزيتون. وبالرغم من أن سكان معلول عملوا بزراعة وحراثة أراضي قريتهم إلا أنهم لم يكونوا يمتلكون تلك المساحات، بل كانوا في الواقع يستأجرونها من عائلة سرسق اللبنانية التي كانت قد اشترت الأرض سابقاً.

أما سكان القرية فنجد أن أعدادهم بدأت تتزايد شيئاً فشيئاً إذا ما قورنت مع أعدادهم في أول إحصاءٍ أجري للقرية في عام ١٥٩٦ حيث كانوا يبلغون ٧٧ فرداً فقط. كما أن أعداد المسيحيين الذين قطنوا القرية قديماً كان حال تكاثرهم من حال جيرانهم المسلمين. فعلى سبيل المثال، في عام ١٩١٢ كان هناك ما يقرب من ٢٣٥ من السكان مسيحيون أرثوذكسيون و ٢٩٦ من المسلمين، يعيشون حياة بسيطة تعتمد على الفلاحة وتربية المواشي. ثم في عام ١٩٤٥ كان في القرية ما يقارب ٦٩٠ شخصاً، من بينهم ٢٠٠ مسيحي والباقي مسلمون. أما آخر تعداد أجري عام ١٩٤٨، أي في العام الذي شهد النكبة الفلسطينية، فقد بلغ عدد سكان قرية معلول ٨٠٠ شخص.

ولأن البقاء لم يكنْ خياراً، فقد اضطر أهل ‘معلول’ وفي أعقاب حرب عام ١٩٤٨ أن يتركوا بيوتهم وأراضيهم وأن يلجأوا إلى أقرب نقطة آمنة، فمنهم من لجأ إلى الناصرة ويافا ومنهم من اتخذ من سوريا ولبنان سقفاً ليأويه. حالهم كحال بقية الفلسطينيين في قرى الجليل الأسفل. لأنه ووفقا للمؤرخ الإسرائيلي بني موريس، احتلت معلول في المرحلة الثانية من عملية دكال العسكريّة، وذلك قبل يومٍ واحدٍ من مدينة الناصرة أي في ١٥ تموز ١٩٤٨.
قريةُ معلول اليوم خالية تماماً من السّكان، أما بيوتهم فقد سوّيتْ للأرض ولا يوجد لها أثر يُذكر. وكلُّ ما يمكن العثور عليه عند زيارتنا لموقع القرية هو كنيستان اثنتان ومسجد واحد آيلٌ للسقوط، وبضعة قبورٍ قديمة تابعة للمقبرة الإسلامية التي كانت في الماضي. إحدى هاتين الكنيستين تابعة للروم الملكيين الكاثوليك، أما الأخرى، فهناك على قمة التلة تقريباً، محاطة بأشجار صنوبر، تتربع كنيسة ‘صعود الرب’ و’النبيٌ إيليا’ للروم الأرثوذكس التي يعود تاريخها لأكثر من٣٥٠ عاماً.

وبالرغم من أن جُعبتنا تكاد تخلو من الحقائق والمعلومات الثابتة والمحددة عن هذه الكنيسة، إلا أنه يمكن توقع أنها تأثرت بالوضع الذي ساد المنطقة آنذاك، ومع رحيل السكان وخلو البقعة ممن قد يساهم في الاهتمام ورعاية المكان، قد تُركت هذه الكنيسة وحيدة وفارغة حتى فترة من الزمن. ولأن الطبيعة تأخذ مسارها فاتحدت عواملها مع عوامل الزمن لجعل كنيسة معلول تَشيبْ وتكابد علامات الكِبر والوهن، فالجدران الخارجية للكنيسة تراكمت عليها نباتات برية والسطح كذلك لم ينجو من تسلّل وانتشار الأعشاب والحشائش عليه. أما الكنيسة من الداخل فبات قلبها ضعيفاً واهناً يعاني من جدرانٍ مشققة ومتآكلة، وسقفه بالكاد يتحمل ضغط حجارته الخارجية.

وما أدى لوصول كنيسة معلول إلى حالتها تلك في ذلك الوقت، هو كون الجيش الإسرائيلي في حالةِ إطباقٍ تام على المنطقة، بحيث لم تكن للبطريركية المقدسية أي سلطة أو قدرة على دخول الكنيسة أو المنطقة آنذاك. لكن، وبفضل الجهود الحثيثة والمتواصلة التي بذلها بطريرك المدينة المقدسة غبطته ثيوفيلوس الثالث، وبدعمٍ من أخوية القبر المقدس، تمكنت البطريركية الأورشليمية من استعادة كنيسة معلول مرة أخرى، وباشرت على الفور بعمليات التنظيف وإعادة التأهيل لها. شملت حملات تنظيف واسعة لإزالة الأعشاب والنفايات ثم تبعها عمليات مُضنية وطويلة لإعادة ترميم كنيسة معلول من الداخل والخارج والتي انتهت في عام ٢٠١٤ وأكسبت الكنيسة صورتها الحالية في عهد غبطة البطريرك ثيوفيلوس الثالث وبتمويلٍ من أخوية القبر المقدس.

أخيراً وليس آخراً، من المهم جداً الإشارة إلى أنه يتم إقامة قداديسٍ إلهية شبه شهرية بغرض فتح الكنيسة والاطمئنان عليها والصلاة فيها. فبالرغم من أن القرية تخلو من السكان حالياً، إلا أن هذا لا يؤثر على رغبة البطريركية الأورشليمية في إحياء تراث الإيمان المسيحي في وَاحِدَةٍ من القرى التي كانت في يومٍ من الأيام موطناً لمسيحيين أرثوذكسيين مؤمنين. كما يقام في كنيسة معلول بعض القداديس التي تحمل الطابع الإحتفالي، منها عيد صعود الرب الذي يقام عادةً في موعده الطبيعي أي يوم الخميس ويترأسه متروبوليت الناصرة سيادة المطران كيرياكوس. وعيد النبي إيليا الذي يقام عادةً في يَوْمِ سبتٍ (إما السابق أو اللاحق ليوم العيد الرسمي للنبيّ) ويترأس هذا القداس بالذات غبطة البطريرك ثيوفيلوس الثالث بطريرك المدينة المقدسة، مع سيادة متروبوليت الناصرة المطران كيرياكوس، وسكرتير عام البطريركية ورئيس أساقفة قسطنطيني سيادة المطران أرستارخوس، مع ورئيس دير جبل طابور قدس الأرشمنديت الأب إيلاريون، الذي يُعد راعي كنيسة معلول، ويشارك في القداس أيضاً عدد من الأرشمندريتتين والكهنة والشمامسة. وعادةً ما يَحْضُرْ هذه القداديس عدد من مؤمني مدينة الناصرة المجاورة وأحياناً بعض من الحجاج القادمين من الخارج.

ngg_shortcode_0_placeholder




دراسة بحثية معمقة عن بلدة سبسطية: التاريخ، الآثار، وصِلَتُها بالقديس يوحنا المعمدان

من هبة هريمات

بلدة سبسطية الواقعة على بعد ١٢كم شمال غرب مدينة نابلس، قد تبدو للوهلة الأولى أنها مجرد بلدة بسيطة متواضعة كغيرها من البلدات المجاورة لها، إلا أن هذا الأمر يتغيّر تماماً بمجرد اقترابنا من ‘الموقع التاريخي’ للبلدة. فعندما نصل إلى الساحة العامة التي تتوسط البلدة، يستقبلنا من الجهة الشمالية مبنى ضخم يُسمى بمسجد ‘النبي يحيى’، إلا أن منظره الخارجي لا يوحي بأنه صُمِمَ ليكون مسجداً، طبعاً باستثناء المئذنة؛ لأنه وفي الواقع لم يكنْ كذلك، وإنما بني هذا المسجد على أنقاض كاتدرائيةٍ(كنيسةٍ) بيزنطية صليبية والأهم من ذلك أنها تحوي قبراً لقديسٍ مجيدٍ وهو القديس ‘يوحنا المعمدان’.

وعند استكمالنا الطريق باتجاه الموقع الأثري للبلدة، نجد ساحة واسعة شبه خالية من البنيان الحديث باستثناء محلين تجاريين لبيع القطع التذكارية ومركزٍ للاستعلامات. وهنا تبدأ رحلةٌ تاريخيةٌ طويلة، تعود بنا إلى العصر البرونزي المبكر (٣٢٠٠ ق.م)، تجبرنا على الإحساسِ بشعورٍ مختلف، ربما يرجع ذلك لوقوفنا في مكانٍ شهد على تعاقبِ حقبٍ تاريخيةٍ عديدةٍ، وعلى مرور حضاراتٍ يرجع تاريخها لأكثر من ١٠٠٠٠ عام، عاشت فيها أقوامٌ كنعانية، وإسرائيلية، وهيلينستية، وهيرودية، ورومانية، وبيزنطية. نجح كلٌ منها في ترك بصمته على البلدة، ومنها مَن جعلها حصناً منيعاً له إلا عند قدوم من هو أقوى منه، فدمرها وفرض عليها مملكته الجديدة.
وتستمر سلسلة الآثار هذه وتتركز عند وصولنا إلى قمة التلة، التي تحوي آثاراً لكاتدرائية بيزنطيةٍ ثانية، تروي قصة قطع رأس القديس ‘يوحنا المعمدان’ بأمرٍ من هيرودس أنتيباس.
وبما أننا أصبحنا على رأس التلة لا يمكننا رجوع أدراجنا الآن، بل نكمل إلى الأمام، فكلُ خطوة أمامنا تمنحنا رؤيةً لما مرّ على هذه القطعة المتواضعة من الأرض، من برجٌ هيلينستي، ثم درجاتٍ رومانية لمعبدِ أغسطس، ثم يليه مدرجٌ روماني، ثمَّ نعود إلى نقطة البداية.

أول محاولة لبناء المدينة الموجودة عليها سبسطية حالياً (مع العلم أنها لم تكتسب هذه التسمية الحالية حتى عام ٢٧ق.م)، كانت في عام ٨٧٦ ق.م على يد الملك ‘عمري’ الملك السادس على عرش مملكة إسرائيل الشمالية، وبما أن موقع المدينة كان استراتيجياً بالنسبة له، كونها تقع على تلة ومعزولة تماماً وبالتالي يسهل الدفاع عنها، قرر ‘عمري’ أن ينقل مسكنه من ‘ترزة’ إلى مدينته الجديدة التي أسماها ‘السامرة’ وجعل منها عاصمةً له. ويذكر سفر الملوك الأول (إصحاح ١٦: ٢١-٢٤) أن كلمة ‘السامرة’ مشتقة من كلمة ‘سمرون’ نسبةً إلى اسم مالكها السابق الذي اشترى منه الملك التلة، وكلمة السامرة تعني ‘الحارسة’ أو ‘المراقبة’.

خَلَفَ الملك ‘عمري’ بعد وفاته ابنه ‘آحاب’، الذي قام بإجراءٍ تغييراتٍ على المدينة، بتأثيرٍ من زوجته الفينيقية إيزابيل، كان من أبرزها بناء معبد تكريماً للِبَعلْ (سفر الملوك الأول، إصحاح ١٦: ٣٢)، وانحرف عن مسار ديانته اليهودية إلى الوثنية، مما أثار غضب النبي ‘إيليا’ الذي تنبأ عن موته البشع هو وزوجته إيزابيل. ثم في زمن الملك ‘يربعام الثاني’ ازدهرت السامرة اقتصادياً، فقد شهدت فترة حكمه الطويلة تطوراً للأرستقراطية التي أصبحت رمزاً من رموز الانحطاط بنظر النبيّين ‘هوشع’ و’عاموس’. فقد تنبأ النبّي ‘ميخا’ عن سقوط السامرة بيد الأشوريين في الإصحاح ١: ٦ من سفر ميخا: “سأجعل السامرة ككومة من الحجارة في الميدان عندما يتم زرع الكرم، وسوف أسقط الحجارة منها الى الواد، وأجعل من أسسها عارية”.
وقد تحققت نبوءة ميخا في عام ٧٢١ ق.م عندما استولى الأشوريون على المدينة بعد حصارٍ استمر لثلاثة أعوام، هُزم فيها ‘هوشع’ آخر ملكٍ لإسرائيل. مما أدى إلى سقوط مملكة اسرائيل الشمالية وعاصمتها السامرة وترحيل سكانها الأصليين من الإسرائيليين إلى بابل وإعمار المدينة بسكانٍ كلدانيين.

في عام ٣٣١ ق.م دُمرت السّامرة على يد الإسكندر الثالث المقدوني (الإسكندر الكبير)، خلال سلسة معاركه ضد الإمبراطورية الفارسية، وحُوِلت إلى قرية هيلينستية بعد أن جلب الإسكندر آلافاً من جنوده المقدونيين إليها. وقد كشفت الحفريات عن ثلاثة أبراج مستديرة (أنظر الصورة ١٤) وتحصينات ضخمة مع أبراج مربعة فضلاً عن الكثير من القطع الأثرية التي يرجع تاريخها إلى فترة الإسكندر الكبير.
إلا أن التحصينات المقدونية دُمرت على يد القائد المكابي ‘جون هيركانوس’ الذي كان رجل دين يهودي رفيع الشأن، فبعد نجاحه في الاستيلاء على مدينة مأدبا بعد حصارٍ استمر ستة أشهر، توجه شمالاً باتجاه شخيم وجبل جرزيم وقام بِشّن حملة عسكرية واسعة استهدف فيها منطقة السامرة، التي استعانت ب ٦٠٠٠ جندي من الحاكم السلوقي أنطيوخوس التاسع، واستمر الحصار لسنة طويلة ومرهقة رفض فيها هيركانوس الاستسلام إلى أن ظفر بالمنطقة وأبادها كلياً في عام ١٠٨ ق.م، ووضع أهلها من غير اليهود تحت العبودية وأخضعهم إلى تبني العادات اليهودية ودمر الهيكل السامري على جبل جرزيم، مما ساهم في تثبيت مركزه عند النخبة الدينية من اليهود وخاصة المكابيين، الذين اشتهروا بتعصبهم الديني وهم الذين حدوا من انتشار اللغة والثقافة اليونانية في المنطقة آنذاك، وبقيت السّامرة تحت حكمهم إلى أن قام بإعادة بنائها الزعيم العسكري والسياسي للإمبراطورية الرومانية بومبيوس العظيم (بومبي) في ٦٣ ق.م.

وبدأت المدينة تعود إلى سابق عهدها بعد أن قام الإمبراطور أغسطس (مؤسس الإمبراطورية الرومانية والإمبراطور الأول لها) بتقديمها كهدية للملك هيرودس العظيم (ملك منطقة اليهودية في ذلك الوقت) في عام ٢٧ ق.م، الذي قام بدوره بعمليات تجديدٍ وتحسين على المدينة، وجلب ٦٠٠٠ شخص ليقطنوها. وتكريماً للإمبراطور قام هيرودس بتغيير تسميتها إلى ‘سباستي’ والتي تعني ‘أغسطس’ باليونانية. كما كرّس أيضاً المعبد الكبير الذي بناه في سبسطية إلى الإمبراطور (أنظر الصورة ١٦). وشيّد هيرودس -المعروف بحبه للفخامة-مسرحاً وملعباً والعديد من الصروح العامة في بلدته الجديدة. إلا أن معظم مباني هيرودس أعيد بناؤها لاحقاً في القرن الثاني للميلاد على زمن الإمبراطور الروماني سيبتيموس سيڤيروس، الذي قام أيضاً بتوسيع البلدة وتشييد العديد من المباني الجديدة فيها.

ومن المهم ذكره بأنه بعد قيامة السيد المسيح من بين الأموات وصعوده إلى السماوات، بدأ فيلبس، الذي كان واحداً من الشمامسة السبع بالتبشير بالإنجيل وبتعاليم السيد المسيح في سبسطية، ونجح في مهمته جداً لدرجة أن قام الرسولان بطرس ويوحنا بالانضمام إليه لاحقاً. حيث اعتمد العديد من سكان سبسطية ونالوا الروح القدس، كما يروي الإصحاح الثامن من سفر أعمال الرسل.

وفقاً للتقليد المسيحي الأرثوذكسي، أنه في سبسطية أقام الملك هيرودس المأدبة الشهيرة، احتفالاً بذكرى مولده، والتي رقصت فيها سالومي ابنة هيروديا زوجة هيرودس الملك والتي كانت سابقاً متزوجة من أخيه فيلبس، وحسبما يروي الإنجيلي مرقس في العهد الجديد (٦: ٢١-٢٩) أن الملك أعجب بالصبيّة وأقسم أن يقدم لها أي شَيْءٍ تطلبه، فخرجت وسألت أمها هيروديا التي طلبت رأس يوحنا المعمدان على الفور، لأنها كانت حانقةً عليه وتريد قتله لأنه كان يعارض وبشدّة زواج هيرودس منها كونها امرأة أخيه، لكن لم تستطع قتله لأن هيرودس كان يهاب يوحنا ويصغي إليه في أمورٍ كثيرة، لذا وجدت فرصتها الذهبية في تحقيق مطلبها لأن هيرودس لم يستطع التراجع بعد أن أقسم للصبيّة أمام ضيوفه من قوَّاد الألوف وأعيان الجليل، فلبّى للصبية طلبها على طبقٍ من الفضة، قدمته لوالدتها. ويُكمِل الإنجيلي سرد الحادثة أنه وبعدما “سمع تلاميذه جاؤوا ورفعوا جثته ووضعوها في قبر”. وفي مكان قطع رأس القديس المجيد السابق، أقيمت كنيسة بيزنطية تعود للقرن الخامس وسميت ب ‘كنيسة الرأس’، أنقاضها لا تزال موجودة إلى الآن في الجانب الجنوبي من الأكروبوليس الروماني (أنظر الصور ١،٢،٣،٤)، ويصلي فيها الحجاج عند زيارتهم إلى سبسطية.
ومن المتعارف عليه أن جسد يوحنا المعمدان قد دُفن في قبرٍ مجاورٍ لقبور النبيين ‘عباديا’ و’أليشع’. كما ورد في ترجمة دليل الأماكن المقدسة الذي جمعه ‘يوسابيوس’ حيث يصف القديس ‘جيروم’ السامرة/سبسطية بأنها “المكان الذي يحرس بقايا القديس يوحنا المعمدان”. وفي القرن الرابع للميلاد، ضمت بلدة سبسطية مجتمعاً مسيحياً متيناً، وفخوراً بحقيقة وجود قبر القديس يوحنا المعمدان في بلدتهم بجانب قبريّ النبيين سابقا الذكر. إلا أن كل ما تبقى من هذا المجتمع اليوم هو عائلة مسيحية واحدة فقط مكونة من أب وأم وثلاثة أطفال.
في حسابات المؤرخ ‘روفينوس’ عام ٣٦٢م، يذكر أن الوثنيين قاموا بتدنيس القبر أثناء ثورة الاضطهاد ضد المسيحيين بقيادة الإمبراطور جوليان المرتد، حيث لم يكتفوا بحرق بقايا القديس يوحنا المعمدان بل وبعثروا رماده للرياح، ولكن بفضل مرور بعض من رهبان دير القديس فيلبس (الواقع في القدس) من المنطقة بالصدفة، استطاعوا أن ينقذوا بعضاً من عظام القديس. وقد بنيت كاتدرائية بيزنطية تحيط بأماكن تواجد القبور إلا أن الفرس دمّروها في عام ٦١٤م.

لاحقاً، في عام ٦٣٤م استسلمت سبسطية للجيوش الإسلامية خلال فترة الفتوحات، وفي فترة الحكم الراشدي لفلسطين، ذُكرت لدى الجغرافيّ الروميّ الأصل ياقوت الحموي، في كتابه ‘معجم البلدان’ بأنها كانت “جزءٌ من ‘جند فلسطين’ على مسافة يومين من مدينة القدس وتقع ضمن مقاطعة نابلس”. ففي عهد الخلفاء الراشدين تم تقسيم بلاد الشام الى مقاطعات دُعِيَ كل منها ‘جنداً’ وتعني ‘المحافظة العسكرية’. وكان ‘جند فلسطين’ أحد الأجناد الخمسة التابعة لولاية الشام، بجانب ‘جند قنسرين’ و’جند دمشق’ و’جند حمص’ و’جند الأردن’. ويضيف الحموي في كتابه أنه “يوجد هناك قبور ليحيى، ابن زكريا، وكذلك قبور عدد من الأنبياء والقديسين.”

ثم أتت الحملات الصليبية وأزالت التقسيمات السابقة، وبعد نجاح الصليبيين في حملتهم الأولى ١٠٩٩ م قاموا بإنشاء مملكة بيت المقدس، التي شكلت أكبر ممالكهم في الشرق واستمرت لعقدين من الزمن. وخلال فترة حكمهم، أعادوا ترميم الكاتدرائية البيزنطية (في عام ١١٦٥) التي تحوي قبور القديسين بالإضافة إلى قبورٍ رومانية ملكية وعينوا أسقفاً لها، وأصبحت ثاني أكبر كنيسة في الأراضي المقدسة بعد كنيسة القبر المقدس في القدس.
إلا أنه وإثر هزيمة الصليبيين أمام صلاح الدين في معركة حطين عام ١١٨٧م تحولت الكاتدرائية إلى مسجد (أنظر الصورة ٦) يحمل اسم النبي يحيى على يد حسام الدين محمد، قريب صلاح الدين. وهذا المسجد الذي أعيد بناؤه في ١٨٩٢ لا يزال يحوي قبر القديس يوحنا المعمدان داخل مبنى صغير تعلوه قبة في ساحة الكاتدرائية القديمة/ المسجد حالياً (أنظر الصورة ٥)، ويمكن الوصول إليه عن طريق نزول ٢١ درجة من سلم ضيق (أنظر الصورة ٩) يقود إلى غرفة تحوي مجموعة القبور (أنظر الصورة ١٠) التي هي عبارة عن ستة منافذ في الجدار (أنظر الصورة ١١). وحسب ما هو متعارف عليه، فإن قبر القديس يوحنا يقع في الصف السفلي بين قبري النبيين أليشع وعباديا (أنظر الصورة ١٧).

وبالرغم من التغييرات العديدة التي طرأت على الكاتدرائية، إلا أنه يمكن وبوضوح رؤية معالمها، مثل: الجزء الكبير من الواجهة الغربية مع قطع كبيرة من الجدار (أنظر الصورة ٧)، وعدد من الأعمدة (أنظر الصورة ٨)، والجزء النصف الدائري من الكنيسة القديمة. وتهيمنُ معالم الكاتدرائية القديمة على ساحة سبسطية العامة، ومن ضمن الآثار العريقة الأخرى التي تتضمنها البلدة اليوم: بقايا شارع الأعمدة (أنظر الصور ١٢،١٣)، برج مراقبة هيلينستي (أنظر الصورة ١٤)، بازيليكا وفورم روماني (أنظر الصورة ١٥)، بالإضافة إلى الدرجات التي كانت تؤدي إلى معبد أغسطس (أنظر الصورة ١٦) وبقايا مدرج روماني.

وبعدما تأسست الإمبراطورية العثمانية في بدايات القرن السادس عشر، انضمت بلدة سبسطية كباقي فلسطين للحكم العثماني، كما ظهرت في سجلات الضرائب عام ١٥٩٦م كجزء من ناحية جبل سامي التابع للواء نابلس. وخلال فترة الانتداب البريطاني لفلسطين، أجرت سلطات الانتداب تعداداتٍ سكانية للمنطقة وبلغ العدد الاجمالي للبلدة في عام ١٩٢٢م ٥٧٢ نسمة، منهم ١٠ مسيحيين و٥٦٢ مسلم. ارتفعت هذه الأعداد في التعداد التالي الذي أجري بعد تسع سنوات لتصل إلى ٢٠ مسيحياً واثنين من اليهود و٧٣١ من المسلمين.
أخيراً وليس آخراً، بعد انتهاء الحرب العربية-الإسرائيلية وبموجب اتفاقية الهدنة ١٩٤٩م انضمت بلدة سبسطية للحكم الأردني، واستمر الوضع على حاله إلى أن انتهت حرب ١٩٦٧ والمعروفة بحرب الأيام الستة ومن وقتها أصبحت سبسطية تحت الإدارة الإسرائيلية وتابعة ل ‘المنطقة ج’ حسب اتفاقية أوسلو، وجزء من ‘منطقة يهوذا والسامرة’ حسب الاصطلاح الحكومي الإسرائيلي المستخدم لتسمية منطقة الضفة الغربية عدا القدس الشرقية.

ngg_shortcode_1_placeholder




دراسة للصحفية هبه هريمات عن قرية نصف جبيل

من هبه هريمات

من ضمن سلسة القرى التي تحيط بمدينة نابلس، والتي من مجموعها تتشكل محافظة المدينة، توجدُ قرية نصف جبيل الواقعة في الشمال الغربي لنابلس وعلى بعد بضعة كيلومتراتٍ من قرية سبسطية التاريخية. ووفقاً لشهادات سكان القرية، الذين يروون القصة المتعارفة لديهم والتي رواها لهم أبائهم وأجدادهم من قبلهم، أن القرية الحالية لنصف جبيل قد بنيت على أنقاض قريةٍ يعود أصلها إلى مئات السنين، كانت قد دمرت واندثرت بسبب طوفانٍ قد عصف بالمنطقة آنذاك، وأنه وبفعل تراكم عوامل الطبيعة قد تكونت بُنيةٌ جديدة لقرية نصف جبيل قد طمست وأخفت معالم القرية القديمة، لكن لا وجودَ لدليلٍ حقيقيٍ ملموس على حدوث هذا الطوفان باستثناء حفريات قد أجريت سابقاً في تلك المنطقة دالةً على وجود غرفٍ وأسوار تحت البيوت القائمة.

وربما أكثر ما يميز قرية نصف جبيل هو انتشار أشجار الزيتون فيها بوفرة، فالحصاد السنوي لها تكون نتيجته ٣٠ طناً من زيت الزيتون الصافي، ولا تزال بعضٌ من أشجار الزيتون التي شهدت الحقب التاريخية المختلفة التي مرت بها البلاد ونصف جبيل كجزء منها، صامدة إلى الآن.

إلا أنه لا يمكن الإجماع على عمر هذه القرية ولا على من كان يقطنها من سكانها الأولين، فكُتُبُ التاريخ قد هَمَّشت هذه القرية ومصيرُ الوجود المسيحي فيها قد يكون مشابهاً لمصير ذكرها في التاريخ! فالسكان الذين قطنوا القرية في الماضي كان جميعهم من المسيحيين، فتعود أصول بعضهم إلى الغساسنة العرب والبعض الآخر إلى شرقي الأردن. وحتى عام ١٨٣٨ كان فيها ما يتجاوز ٢٠٠ فرداً (من الرعية الأرثوذكسية) بالإضافة إلى كاهن الرعية، وفي عهد الانتداب البريطاني أظهرت الإحصاءات السكانية على وجود ١٠٥ مسيحيين من أصل ٢١٠ مواطنين، ثم في ١٩٦١ بلغ عدد سكانها ٢٢٨ شخص ٥٠ من المسيحيين و١٧٨ من المسلمين، وهذه الأعداد استمرت بالتضاؤل فالهجرات المسيحية من القرية وتوافد المسلمين اليها، قد غيّر ديمغرافيتها حتى هبط الوجود المسيحي في قرية نصف جبيل هبوطاً حاداً ليصل إلى ما هو عليه الآن، فكل ما تبقى في القرية شخصين اثنين أو بالإحرى سيدتين مستنين اثنتين، في الثمانين من عمرهما، إحداهما تتنقل ذهاباً وإياباً بين بيتها في نصف جبيل ومنازل أبنائها في مدنٍ مجاورة، والسيدة الأخرى حالتها الصحية لا تسمح لها بالتنقل فاختارت البقاء في منزلها وسط جيرانها ممن قد يصل عددهم إلى ٥٠٠ مسلم.

وربما من إحدى الإثباتات على الوجود المسيحي القديم في قرية نصف جبيل وجود كنيسة أرثوذكسية في الجزء الشرقي من القرية، تحمل اسم القديس مار جريس وبنيت في عام ١٨٨٠، وقامت البطريركية الأرثوذكسية بترميمها حديثاً، وفي شهر نوڤمبر من عام ٢٠١٤ تم افتتاح الكنيسة المرممة بحضور غبطة البطريرك ثيوفيلوس الثالث (انظر الصورة ٥،٦،٧)، والسيد باسم وزوجته منى حشمة، اللذين قاما بتمويل مشروع الترميم بجانب البطريركية المقدسية.

كان لكنيسة مار جريس كاهنها الخاص المسؤول عن أمور الرعية حتى عام ١٩٦٣، عندما رقد في الرب الأب نقولا خوري. بعدها أصبح تقليداً بأن الكاهن الذي يتولى أمور الرعية الأرثوذكسية في مدينة نابلس، بأن يتولى أيضاً الاهتمام برعية نصف جبيل وأن يقيم القداس الإلهي الأسبوعي في كنيسة القرية.

ngg_shortcode_2_placeholder




بيان بطريركية الروم الارثوذكسية المقدسية

هذا بيان من بطريركية الروم الارثوذكسية المقدسية الى عموم رعايانا و أهالينا و أحبائنا و أصدقائنا و لجميع أبناء و بنات الوطن ، السلام لجميعكم، رعاكم الله و وفقكم و بعد،
نشرت بعض الصحف الاسرائيلية مقالات بدعم و تشجيع من مؤسسات اسرائيلية نخوض معها جولات شرسة حماية لموجودات البطريركية من عقارات في كافة ارجاء فلسطين التاريخية . و وجدت هذه النشرات صدى عند بعض الصحف و الصحفيين في الاوساط العربية و تناول الصدى بطريركيتنا بالسوء . و هي ليست المرة الاولى و لن تكون الاخيرة فلقد سبق ان تناولت موضوع الصحف و الالسن في شهر تشرين اول من عام 2016 عندما كشفت البطريركية عن موضوع اتمام عقد ارض راحافيا و اعلمت الجهات الرسمية المختصة في الاردن و السلطة الوطنية الفلسطينية .

و ليس على الغاصب او صحفه حرج فهو لا يحترم المواطنين القابعين تحت الاحتلال و لا اعتبار لحقوقهم او املاكهم و لا يتوانى في سبيل تحقيق هدفه عن الاستعانة بالتزوير و ترويع الاسير . و ما تمادي الغاصب علينا بجديد فلقد مر على بطريركيتنا ،أم الكنائس ، أرتال من المحتلين الغاصبين منذ ان تشكلت كنيستنا المقدسية خفية بعد صعود السيد المسيح الى السماء.
كان لبطريركيتنا جولات مع الغاصبين على مر القرون العشرين من عمر كنيستنا ، كل حقبة تلت التي سبقتها من تسلط المحتلين منذ ان بنى العرب اليبوسيون هذه المدينة التي باركها الله و خصها و ما حولها بالقداسة . و رحل الغاصبون على تواترهم عنها و اضحت بقاياهم فيها اثرا بعد عين . و لم تخل حقبة من حقب الاحتلال، باستثناء حقبة الفتح و الحكم العربي ، من مواجهات مع البطريركية المقدسية كان اعتاها مواجهات الغزاة الفرنجة عبر قرنين من الزمان ثم ارتحل هؤلاء او اجبروا على الرحيل و بقي اهلها و ساكنوها العرب ، و ما زالت عجلة التاريخ تدور و حظوظ اهل ايليا تعلو و تغور . فيوم لك و يوم عليك .
و نحن نعي الدور التاريخي الوطني لبطريركيتنا، و هو يزودنا بالمنعة في مواجهاتنا الحديثة منذ تأسيس اسرائيل ، اذ لم يخل عقد من الزمان من اشتباكات حقوقية و قانونية مع الطامعين في موجودات البطريركية من عقار و خلافه.
ان الحديث يدور عن 528 دونم ارض كانت تملكها البطريركية و تم الاستحواذ عليها عام 1951 فور قيام اسرائيل عام 1948 . و هي موزعة على مناطق الطالبية و رحافيا و نيوت و ولفسون و منطقة محطة المطار، السواد الاعظم من الاراضي تم تنظيمها من قبل السلطات الاسرائيلية مرافق عامة و حدائق للبلدية، و شوارع و مقابر و مسار لسكة الحديد و على جزء اخر منها اقام الاسرائيليون عليها ابنية سكنية و لا نذيع سرا بالقول ام من تلك الاراضي مواقع اقيم عليها مبنى الكنيست الاسرائيلي و المحكمة العليا و المكاتب الحكومية و احياء سكنية اخرى.
و تم الاستحواذ على هذه الاراضي عام 1951 بموجب عقود مجحفة اعطت اسرائيل كامل حقوق التملك و التصرف بها و لم يتبقى للبطريركية سوى حق مالي يحدد و يقر من قبل رئيس محكمة العدل العليا الاسرائيلية.
لم يكتفي المغرضون في اسرائيل بسلب الاراضي عن طريق العقود بل استمرت المؤامرات ضد البطريركية لنزع حقها المالي، ففي عام 2000 بعهد البطريرك الراحل ثيوذوروس الاول قام اسرائيليون بتزوير عقد ينسب للبطريركية اقرارها حكر الارض و استلامها كامل حقها المالي ، لكن البطريركية رفضت الخضوع و باشرت بمعركة قضائية ضد المزورين استمرت لسنوات طويلة نجحت البطريركية فيها بكشف عملية التزوير و ابطال العقد.
و في ظل هذه الظروف و بعد ان ظنت البطريركية انها تحررت من الظغوط المفروضة عليها قامت اسرائيل برفع قضية تعويض ضد البطريركية متهمة اياها بنقض الاتفاق ، و مطالبة اياها بدفع مبلغ 30 مليون دولار امريكي كبدل عطل و ضرر و ما زالت هذه القضية متداولة في المحاكم الاسرائيلية حتى الان .
و من جانب اخر تكاثفت ضغوطات المواطنين الاسرائيلين الذين يسكنون هذه الاراضي على حكومتهم الاسرائيلية بتحديد مصير حكرهم لها و ماذا سيترتب عليه من دفع اموال، مما دفع الحكومة الاسرائيلية بعقد العزم على سن قانون يتيح تمديد عقود السكان الاسرائيليين تلقائيا دون الرجوع الى الكنائس.
و بناء على ما ذكر لم يتبقى للبطريركية اي مخرج للحفاظ على حقها المالي قبل نفاذ القانون الذي سيسلبها حقها و/او اصدار حكم بالقضية المتداولة يقضي على البطريركية تعويض اسرائيل بعشرات الملايين سوى ان تقوم البطريركية ببيع و تحويل ما تبقى لها من حق مالي في الاراضي لاطراف ثالثة من المستثمرين الذين بدورهم سيقومون بمفاوضة اسرائيل لانتزاع الحقوق المالية منهم و التصدي و تحمل كامل عواقب القضية المالية المرفوعة على البطريركية بقيمة 30 مليون دولار امريكي .
و بالتالي فان البطريركية لم تقم ببيع اراضي او عقارات كانت بحوزتها او تحت تصرفها فهذه اراضي اخذت من قبل اسرائيل منذ عام 1951 و كل ما قامت به البطريركية اليوم هو انقاذ حقها المالي و استخدامه للحفاظ على وجودها من اجل خدمة و حماية اراضيها و ممتلكاتها و مقدساتها الدينية في البلدة القديمة و مناطق 67 التي تهددها يوميا المؤامرات الشرسة و الضغوطات و الضرائب الباهظة المفروضة عليها من قبل اسرائيل و ذلك قبل فوات الاوان .
ان تداول بعض الصحف الاسرائيلية و تجاوب وسائل اتصال عربية معها هو جزء من سلسلة المواجهات هذه، و البطريركية لم تهن و لم تضعف في مواجهاتها مع المؤسسات الاسرائيلية لكنها تقوى بدعم رعاياها و دعم شركاء الوطن. اذ يدب الوهن في الجسم من داخله. و تناشد البطريركية الغيورين على الحقوق الفلسطينية بمن فيهم رعاياها دعمهم لا ان ينحازوا الى من ضلوا الطريق باصطفافهم الى جانب الغاصبين بترديد ترهاتهم.
و ندعو الصحافة الى عقد نداوات للخوض في تفاصيل المواجهات العديدة مع المؤسسات الاستيطانية و السلطات الاسرائيلية و وصف الوسائل التي تتبعها من شهود الزور الى تزوير الوثائق و تجنيد العملاء للنيل من البطريركية الصامدة رغم الكلفة العالية و الديون التي تراكمت.
و في التاريخ لنا عبرة و منعة، و فيه قراءات المستقبل، فقد رحل الغاصبون بأصنافهم و بقي اهل الدار اليبوسيون و الكنعانيون و العرب الوارثون، و بقيت كنيستنا بهم و معهم، و انا لعهدهم حافظون.

بطريركية الروم الأورثوذكسية – مكتب السكرتارية العام