قرية معلول الفلسطينية – كل ما تبقى آثارٌ دينية
من هبه هريمات
على بعد ١٢ كم غربي مدينة الناصرة، تقودنا طريقٌ ترابية وعرة إلى تلةٍ مغطاة بأشجار من الصنوبر، للوهلة الأولى قد توحي لنا غابة الصنوبر هذه بالشموخ والسيطرة، ولكنها وهي تتدرج صعوداً إلى قمة التلة، التي تعلو ٢٧٥ متراً عن سطح البحر، لا تنفك تعطينا إيحاءً بالوحدة. وإذا نزلنا من مركبتنا وسرنا قليلاً على أقدامنا سنلاحظ أنه وفي طياتِ التراب الذي تدوسه نِعالُنا، يوجد بعضٌ من قطعٍ رمادية صلبة، وقد لا ندرك إلا متأخرين أن هذه القطع ما هي إلا بقايا أجزاءٍ من جدران بيوتٍ هُجّر أهلها خوفاً من أن يكون مصيرهم مشابهاً لمصير حجارةِ بيوتهم. أصل البقعة التي نقف فيها الآن يعود إلى زمن الكنعانيين، وأصل هذه التلة التي نحن في صدد استكشافها هو قرية، ولغاية فترة معينة كان أصل هذه القرية فلسطيني.
وبما أن قرية معلول لم تعد آهلة بالسكان، فمن الصعب علينا أن نجد أياً من كبار السن الذين يتحملون عادة مسؤولية رواية قصة أو تاريخ قراهم، فملجأنا الوحيد الآن هو الكتب. ومن المثير للاهتمام أن معلول قد ذكرت في عدد من الكتب التاريخية والجغرافية. ففي كتاب “بلادنا فلسطين” لمصطفى الدباغ على سبيل المثال نجد أن المعنى وراء اسم “معلول” قد يعني “المدخل” أو “البوابة”. وهذه القرية يُعتقد أنها بنيت على المكان الذي حضن سابقاً قرية ‘أهالول’ الرومانية. خاصة وأنه بالقرب من القرية يوجد ضريح روماني فخم، سمي آنذاك ب “قصر الدير”، ويعتبره البعض دليلاً على أن المكان كان آهلاً بالسكان في فترة العصر الروماني. أما أراضي القرية فقد بلغت مساحتها الإجمالية في عام ١٩٤٥، ٤٦٩٨ دونماً منها ٣٠ دونماً مقتطع للطرق والوديان، و٢٧١٩ دونماً أملاك لليهود، و٧٠٠ دونماً مزروعة بأشجار الزيتون. وبالرغم من أن سكان معلول عملوا بزراعة وحراثة أراضي قريتهم إلا أنهم لم يكونوا يمتلكون تلك المساحات، بل كانوا في الواقع يستأجرونها من عائلة سرسق اللبنانية التي كانت قد اشترت الأرض سابقاً.
أما سكان القرية فنجد أن أعدادهم بدأت تتزايد شيئاً فشيئاً إذا ما قورنت مع أعدادهم في أول إحصاءٍ أجري للقرية في عام ١٥٩٦ حيث كانوا يبلغون ٧٧ فرداً فقط. كما أن أعداد المسيحيين الذين قطنوا القرية قديماً كان حال تكاثرهم من حال جيرانهم المسلمين. فعلى سبيل المثال، في عام ١٩١٢ كان هناك ما يقرب من ٢٣٥ من السكان مسيحيون أرثوذكسيون و ٢٩٦ من المسلمين، يعيشون حياة بسيطة تعتمد على الفلاحة وتربية المواشي. ثم في عام ١٩٤٥ كان في القرية ما يقارب ٦٩٠ شخصاً، من بينهم ٢٠٠ مسيحي والباقي مسلمون. أما آخر تعداد أجري عام ١٩٤٨، أي في العام الذي شهد النكبة الفلسطينية، فقد بلغ عدد سكان قرية معلول ٨٠٠ شخص.
ولأن البقاء لم يكنْ خياراً، فقد اضطر أهل ‘معلول’ وفي أعقاب حرب عام ١٩٤٨ أن يتركوا بيوتهم وأراضيهم وأن يلجأوا إلى أقرب نقطة آمنة، فمنهم من لجأ إلى الناصرة ويافا ومنهم من اتخذ من سوريا ولبنان سقفاً ليأويه. حالهم كحال بقية الفلسطينيين في قرى الجليل الأسفل. لأنه ووفقا للمؤرخ الإسرائيلي بني موريس، احتلت معلول في المرحلة الثانية من عملية دكال العسكريّة، وذلك قبل يومٍ واحدٍ من مدينة الناصرة أي في ١٥ تموز ١٩٤٨.
قريةُ معلول اليوم خالية تماماً من السّكان، أما بيوتهم فقد سوّيتْ للأرض ولا يوجد لها أثر يُذكر. وكلُّ ما يمكن العثور عليه عند زيارتنا لموقع القرية هو كنيستان اثنتان ومسجد واحد آيلٌ للسقوط، وبضعة قبورٍ قديمة تابعة للمقبرة الإسلامية التي كانت في الماضي. إحدى هاتين الكنيستين تابعة للروم الملكيين الكاثوليك، أما الأخرى، فهناك على قمة التلة تقريباً، محاطة بأشجار صنوبر، تتربع كنيسة ‘صعود الرب’ و’النبيٌ إيليا’ للروم الأرثوذكس التي يعود تاريخها لأكثر من٣٥٠ عاماً.
وبالرغم من أن جُعبتنا تكاد تخلو من الحقائق والمعلومات الثابتة والمحددة عن هذه الكنيسة، إلا أنه يمكن توقع أنها تأثرت بالوضع الذي ساد المنطقة آنذاك، ومع رحيل السكان وخلو البقعة ممن قد يساهم في الاهتمام ورعاية المكان، قد تُركت هذه الكنيسة وحيدة وفارغة حتى فترة من الزمن. ولأن الطبيعة تأخذ مسارها فاتحدت عواملها مع عوامل الزمن لجعل كنيسة معلول تَشيبْ وتكابد علامات الكِبر والوهن، فالجدران الخارجية للكنيسة تراكمت عليها نباتات برية والسطح كذلك لم ينجو من تسلّل وانتشار الأعشاب والحشائش عليه. أما الكنيسة من الداخل فبات قلبها ضعيفاً واهناً يعاني من جدرانٍ مشققة ومتآكلة، وسقفه بالكاد يتحمل ضغط حجارته الخارجية.
وما أدى لوصول كنيسة معلول إلى حالتها تلك في ذلك الوقت، هو كون الجيش الإسرائيلي في حالةِ إطباقٍ تام على المنطقة، بحيث لم تكن للبطريركية المقدسية أي سلطة أو قدرة على دخول الكنيسة أو المنطقة آنذاك. لكن، وبفضل الجهود الحثيثة والمتواصلة التي بذلها بطريرك المدينة المقدسة غبطته ثيوفيلوس الثالث، وبدعمٍ من أخوية القبر المقدس، تمكنت البطريركية الأورشليمية من استعادة كنيسة معلول مرة أخرى، وباشرت على الفور بعمليات التنظيف وإعادة التأهيل لها. شملت حملات تنظيف واسعة لإزالة الأعشاب والنفايات ثم تبعها عمليات مُضنية وطويلة لإعادة ترميم كنيسة معلول من الداخل والخارج والتي انتهت في عام ٢٠١٤ وأكسبت الكنيسة صورتها الحالية في عهد غبطة البطريرك ثيوفيلوس الثالث وبتمويلٍ من أخوية القبر المقدس.
أخيراً وليس آخراً، من المهم جداً الإشارة إلى أنه يتم إقامة قداديسٍ إلهية شبه شهرية بغرض فتح الكنيسة والاطمئنان عليها والصلاة فيها. فبالرغم من أن القرية تخلو من السكان حالياً، إلا أن هذا لا يؤثر على رغبة البطريركية الأورشليمية في إحياء تراث الإيمان المسيحي في وَاحِدَةٍ من القرى التي كانت في يومٍ من الأيام موطناً لمسيحيين أرثوذكسيين مؤمنين. كما يقام في كنيسة معلول بعض القداديس التي تحمل الطابع الإحتفالي، منها عيد صعود الرب الذي يقام عادةً في موعده الطبيعي أي يوم الخميس ويترأسه متروبوليت الناصرة سيادة المطران كيرياكوس. وعيد النبي إيليا الذي يقام عادةً في يَوْمِ سبتٍ (إما السابق أو اللاحق ليوم العيد الرسمي للنبيّ) ويترأس هذا القداس بالذات غبطة البطريرك ثيوفيلوس الثالث بطريرك المدينة المقدسة، مع سيادة متروبوليت الناصرة المطران كيرياكوس، وسكرتير عام البطريركية ورئيس أساقفة قسطنطيني سيادة المطران أرستارخوس، مع ورئيس دير جبل طابور قدس الأرشمنديت الأب إيلاريون، الذي يُعد راعي كنيسة معلول، ويشارك في القداس أيضاً عدد من الأرشمندريتتين والكهنة والشمامسة. وعادةً ما يَحْضُرْ هذه القداديس عدد من مؤمني مدينة الناصرة المجاورة وأحياناً بعض من الحجاج القادمين من الخارج.