دير القديس ثيودوسيوس (عطالله) رئيس الأديار

null
Share

image_pdfimage_print

                

يعرف باللغة العربية أيضاً بدير دوسي وابن عبيد، ويقع الدير، بحسب التقليد، حيث استراح الحكماء (المجوس) الثلاث في طريق عودتهم بعد زيارتهم للمسيح الطفل في بيت لحم، على بعد حوالي عشر كيلومترات شرقي بيت ساحور، مدخل صحراء يهوذا، مبني على أطلال الدير الذي أسسه القديس ثيودوسيوس – عطا لله – عام ٤٦٥ م. وتظهر المغارة الطبيعية التي استراح فيها الحكماء كأحد أهم أقسام الدير حتى اليوم. كانت المغارة تُستعمل في الماضي ككنيسة وبعد ذلك كمدفن. داخل صندوق مرمري على طول جدار المغارة  مدفونة عظام  مؤسس الدير البطريرك الأورشليمي القديس صفرونيوس الذي خلف القديس ثيوذوسيوس فيما بعد برئاسة الدير الأولي, القديس كوبريس الذي أصبح بطريركاً بعد القديس صفرونيوس, القديسة صوفيا والدة القديس سابا, القديسة ثيوذوتي والدة القديسين ماقتي الفضة, عظام والدة القديس بنديلايمون, القديس كسينوفون والقديسة ماريا, وعظام شخصيات رهبانية عظيمة عاشت في تلك الفترة.

بلغ الدير أوجه بين القرنين الخامس والسابع الميلادي حيث إحتوى على أربع كنائس وكان عدد الرهبان الذين يعيشون  داخل الدير٧٠٠  عددٌ حسب كاتب تاريخ الدير رئيس الشمامسة آنذاك الأب كليوباس كيكيليدس يعد أعجوبة, بينما الذين يعيشون في المناسك حول الدير حوالي ٢٥٠٠ راهب وراهبة، يتسمون بالمحبة والطاعة والنسك والجهاد الروحي. وكان يحوي الدير على مستشفيات, دار أيتام, دار عجزة, ملجأ للفقراء وأبنية أخرى, وكان القديس البار ثيوذوسيوس قدوة للرهبنة الحقيقة الذي تشبه بسابقيه من الأباء القديسين الرهبان مثل القديس سابا, القديس إفثيميوس, والقديسَين باسيليوس الكبير وغريغوريوس اللاهوتي من كابودية مسقط رأس القديس ثيوذوسيوس.

وبالإضافة إلى الكنيسة التي يقام فيها القداس الإلهي، كان هناك أيضاً مدرسة للاهوت ومشاغل وإسطبلات للحيوانات ومرافق أخرى. لكن تلك المرافق والأنشطة لم تدم طويلاً بسبب الهجمات الفارسية عام ٦١٤ م وذبح ٥٠٠٠ راهب, والغزوات الأسلامية فيما بعد, لكن الدير عاد للازدهار بين القرنين الحادي والثاني عشر، وفي العهد الصليبي بالقرن الخامس عشر تُرك الدير وأصبح ملاذاً للبدو من قبيلة ابن عبيد، ومن هنا جاءت التسمية.

في عام ١٨٨١ م، قام مدير مدرسة الصليب الكريم اللاهوتية – المصلبة فوتيوس أليكساندريتيس بشراء أطلال الدير من البدو، وعام ١٨٩٦ م قام بطريرك القدس آنذاك جيراسيموس الأول بوضع حجر الأساس للدير الجديد، وتم تدشين البناء الحالي عام ١٩٥٢ م الذي هو عبارة عن بناء ملكي بيزنطي مع أرضية من الفسيفساء مكتوبة باللغة اليونانية التي تعد شهادة موثوقة لتاريخ هذا الدير العريق على مر القرون ورمز للروح الاورثوذكسية في فلسطين. سنة ١٩٩٠م تم ترميم مغارة المجوس وشراء المنطقة المحيطة بها من قِبل الراهب ليونديوس.    

كان القديس البار ثيوذوسيوس غارقاً بالحب الإلهي حيث أنه مدى حياته طبّق الوصية الأولى في الإنجيل: ” تُحِبُّ الرَّبَّ إِلهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ، وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ، وَمِنْ كُلِّ قُدْرَتِكَ، وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ، وَقَرِيبَكَ مِثْلَ نَفْسِكَ”.

 

حياة القديس ثيودوسيوس رئيس الاديار 

طيلة ثلاثين سنة لم يضع قطعة خبز في فمه وبينما كان يعمل من الفجر حتى المساء كان يرغم نفسه للاكتفاء بالاعشاب والبلح وبعض الحبوب التي ترمى في العادة للحيوانات الداجنة وفي بعض الوجبات كانت يكتفي بتمرة واحدة وبعد العشاء كثيرا ما كان يعاقب نفسه فيقضي الليل واقفا غارقا في الصلاة والتأمل مع الدموع.

وبسبب محبته لله الاب ولابنه يسوع المسيح فالقديس ثيودوسيوس مكرم جدا في كل العالم المسيحي (423 – 529 ب م ) فهو مثال للراهب المنضبط العائش لمجد الله . انه وجه للتقوى وبذل الذات في القرون الاولى من تاريخ المسيحية لطيف المعشر متواضع ويقسو على نفسه فيحرم جسده ما هو بحاجة اليه من طعام , الا ان الله في عميق حكمته كان يغذيه من المائدة الروحية طيلة 106 سنوات عاشها على الارض.

ولد القديس ثيودوسيوس (عطالله) في سنة 423 م لوالدين مسيحيين تقيين في قرية كبادوكية من اعمال موغارياسوس ( جزء من تركيا الحالية ) وعاش إلى سن المائة وخمس سنوات، حيث توفي في العام ٥٢۰ م، ويقبع قبره الآن في كهف أبيض الجدران داخل الدير. ترعرع القديس ثيودوسيوس في بيت تقي ، وتعلم الاسفار الالهية منذ حداثته . هو مفكر حذق ، وخطيب مفوه . وسرعان ما اصبح قارئا في كنيسة قريته حيث لامست الكلمات الالهية قلبه ، فكان يحلم بمغادرة العالم لعبادة الله راهبا في دير.

وفي سن مبكر انطلق هذا التلميذ المحب للمسيح الى الاراضي المقدسة وكان ذلك في الايام الاخيرة من عهد الامبراطور الروماني مركيانوس الذي كان يقترب من نهاية عهده. وبينما كان في سفرته عبر انطاكية الى فلسطين والاماكن المقدسة عرّج على القديس سمعان العامودي الذي ادهشه بشدة عندما ناداه ذاك من اعلى العامود حيث كان يقيم، وقال له : يا ثيودوسيوس خادم الله اهلا بك ثم راح القديس سمعان العامودي يتنبأ ان القديس ثيودوسيوس سوف يصبح في نهاية المطاف قائدا عظيما للرهبان في فلسطين.

ولما بلغ الاماكن المقدسة سجد وصلى في تلك المواقع ثم طرح على نفسه سؤالا صعبا: وهل يبدأ ثيودوسيوس خدمة الله ناسكا في البرية ام راهبا يعيش في دير يتعبد فيه الجميع لله ؟ وفي تفكيره بالسؤال وضع التأمل التالي : “اذا كان جنود الملك الارضي لا يتجاسرون على المضي الى المعركة الا اذا سبق ان تدربوا على ايدي ضباط اكفاء في فنون القتال، فكيف استطيع انا العديم الخبرة ان اباشر معاركة الشياطين الخبثاء غير المتجسمين ؟ لذا لا غرو من ان اجد لنفسي اباء روحيين استرشد عليهم ردحا من الزمن حتى يشتد عودي، ومن ثم انطلق لأقيم في الصحراء.

كانت هذه نصيحة شديدة الوقع وقد سار القديس ثيودوسيوس بموجبها. فقام وانضوى في دير في فلسطين على مقربة من بيت لحم ، بعد ان امضى فيها سنوات عدة مروّضا نفسه بصبر على حياة تليق بالله. ولم يمض وقت طويل حتى راح ابوه الروحي لونجينوس يلح عليه كي يؤسس ديرا يقوم هو نفسه بادارته في بيت لحم.

كان ثيودوسيوس خادما لله متواضعا وفي ذلك الحين كانت هناك مجموعة من الرهبان تنضوي تحت قيادته وارشاده اما هو فكان يعيش في كهف رطب، وكان يحيا عاكفا على الصلاة والتوبة. كان لهذا الكبادوكي قلب كريم، فلم يكن بوسعه ان يرفض الرهبان الغيارى الذين كانوا يتوافدون عليه للاسترشاد والتزود بنصائحه. وفي العقود التالية من السنين قام هو نفسه بتأسيس دير كبير وثلاث كنائس لرهبانه، وكان يعيش كرئيس على الدير حياة مثالية ملؤها القدوة.

وما هي الا سنوات حتى اختاره اسقف اورشليم رئيسا على جميع اديار فلسطين، فذاع صيت قداسته في كل فلسطين. اما هو فراح من هذه المسؤولية يرشد الرهبان الى التقوى مع الطيب الذكر القديس سابا المتوحد الذي كان قد عينه الاسقف نفسه ساللوستوس مرشدا روحيا لكل نساك فلسطين.

كان القديس ثيودوسيوس صديقا للفقراء والمرضى، فقام يطعم الجياع كل يوم، وراح يوعز لرهبانه ان يعدوا عشرات الموائد للوجبة المسائية. وفي غير مناسبة ، وعندما كانت المؤن تشح، حوّل بضعة خبزات الى خبز وفير على غرار ما فعله السيد يسوع المسيح عندما كثر الخبزات والسمك قبل خمسة قرون.

بيد ان الهبات العظيمة التي كان القديس ثيودوسيوس يقدمها للعالم لم تقتصر على تشييد كنائس ومشافي وتوجيه الرهبان الورعين في صلواتهم اليومية ، بل قام ايضا بخدمة جليلة قاوم من خلالها مع القديس سابا المتقدس هرطقة افتيخيس في اورشليم وفلسطين، فنفي على الفور بسبب جهوده هذه من قبل الامبراطور البيزنطي انستاسيوس الذي كان قد اعتنق تعاليم افتيخيس, وسرعان ما عوقب الامبراطور نفسه على جحوده ، فقد ضربته صاعقة قتلته على الفور.

في نهاية حياته، احتمل القديس ثيودوسيوس مرضا مزمنا طويل الامد، الا انه ابى ان يصلي الى الله للشفاء منه، انما كان يقول ان احتمال الالام ضروري للتوبة عن الخطايا الروحية. مات عن عمر كبير في شيخوخة متناهية وله من العمر 106 سنة في الدير الذي سبق ان اسسه هو بنفسه. وغادر هذه الدنيا وتسبيح الله على شفتيه.

والى اليوم، ما يزال القديس ثيودوسيوس مثالا للتواضع والايمان في كل الكنيسة. ومن جديد فان افعاله اظهرت مقدار ايمانه العميق بالله، وبضرورة التذكر ان كل شيء في هذه الدنيا خاضع لمشيئة الله. وفي احدى المناسبات التي يجدر ذكرها زرع الخوف في نفوس رهبانه عندما امرهم ان يحفروا قبرا في البستان الذي وراء الكنيسة. وعندما انتصب كل واحد منهم والمعول في يده ، ابتسم هو وسألهم : ” يا اولادي، القبر جاهز، فمن منا سينزل اليه اولا ؟ “. وفي مناسبة اخرى، عندما شحّت المؤنة وراح الرهبان يتأففون من نقص المواد الغذائية الح هو عليهم ان يتابعوا الصلاة، بينما راح هو يقول : ” ان من اطعم اسرائيل في البرية، وفي العهد الجديد اطعم الافا من خمس خبزات ، سوف يعتني بنا. انه الله القدير نفسه وسوف لا يتخلى عنا. وما ان انتهى من عظته البليغة، حتى قدم الى الدير مسيحي عابر سبيل ومعه بغلان محملان بالاطعمة مهداة الى الدير.

كان القديس ثيودوسيوس كاتبا ومفكرا، ترك قبل رحيله عددا من العظات البليغة للرهبان. وفي احدى العظات راح ينبه الرهبان ان يحاذروا الرضا عن الذات : ” استحلفكم يا اخوتي حبا بربنا يسوع المسيح الذي بذل نفسه من اجلنا ان تبذلوا انتم ايضا ذواتكم من اجل خلاصها. ”  فلنتب لأننا هدرنا حياتنا الى الان، ومن الان فلنعمل لمجد الله وابنه. ارجو ان لا نكون اغبياء الى الابد لئلا ندعى للمثول امام الديان فارغين وليس فينا فضيلة، ومتروكين خارج خدر المسيح. اسألكم ان تصلوا طمعا بالابدية ، فنحن قد اسأنا استخدام الدهر الحاضر، فالدموع بعد الموت لن تجدينا نفعا,  الان هو وقت مقبول . الان هو يوم خلاص”.

ويوما بعد يوم، وسنة بعد اخرى ، تابع الراهب المتواضع ثيودوسيوس ثقته العميقة بالرب. وعندما اجتاحت فلسطين موجة من الجراد في فصل الصيف طلب من القديس ثيودوسيوس ان يمد يد العون. كان في ذلك الحين شيخا طاعنا في السن الا انه نهض وانطلق الى الحقول وهو يتوكأ عصاه وراح يجيل نظره في امواج الجراد التي غطت كل شيء الا انه لم يتردد لحظة بل على التو رفع رأسه وصرخ في الحشرات قائلا : ” ربنا يسوع المسيح لايسمح لك ان تتلفي طعام الفقراء وماهي الا لحظات حتى توارت سحابة الجراد عن الانظار وابيدت جميع الحشرات.

القديس ثيودوسيوس انسان عميق الايمان، وراهب كلي الطاعة وواحد من اكثر المفكرين الملهمين في كل تاريخ الكنيسة المقدسة. سيرته دليل امين ودقيق لكل واحد منا نحن الذين نجاهد كي نحيا بمقتضى انجيل يسوع المسيح . ولأنه اطاع بعمق وبجهوزية مع فرح، فنحن نستطيع ان نسمع بأكثر وضوح من ذي قبل تلك الكلمات المدوية والمظفرة من الصلاة الربية : ” ليأت ملكوتك ، لتكن مشيئتك “.

وككثيرين من الرهبان في زمانه كرس القديس ثيودوسيوس كل حياته للصلاة وللتعلم فضلا عن التتلمذ على الفضيلة. همه الوحيد كان ان يحيا قيم الانجيل وبقدوته ان يقود الاخرين الى المحبة الالهية نفسها ونحن لا يطلب منا ان نحذو حذو اولئك الاباء في زمانهم بل علينا ان نقتدي بالقول : ” لا لأنفسنا “، فنجعل ذواتنا وحياتنا انشودة دائمة من التسبيح لله القدير.

 

طروبارية باللحن الثامن:

“للبرية غير المثمرة بمجاري دموعك امرعت ، وبالتنهدات التي من الاعماق اثمرت بأتعابك الى مئة ضعف . فصرت كوكبا للمسكونة متلألئا بالعجائب ، يآبانا البار ثيودوسيوس ، فتشفع الى المسيح الاله ان يخلص نفوسنا.  “

قنداق باللحن الثامن:

“لما غرست في ديار ربك ، ازهرت ببهاء فضائلك الباهرة ، وكثرت اولادك في البرية ، وبأمطار عبراتك روّيتهم يارئيس قطعان حظائر الله الالهية ، لذلك نصرخ اليك هاتفين : السلام عليك ايها الاب ثيودوسيوس